Home - إعراب القرآن
 الكتاب
 الآية
عرض





اعراب آيات سورة

( البقرة )
{ الۤـمۤ * ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }
إنْ قيل: إن الحروفَ المقطَّعة في أوائل السور أسماءُ حروفِ التهجِّي، بمعنى أن الميم اسْمٌ لمَهْ، والعينَ اسمٌ لعَهْ، وإن فائدتَها إعلامُهم بأن هذا القرآنَ منتظمٌ مِنْ جنس ما تَنْظِمون منه كلامَكم ولكن عَجَزْتُمْ عنه، فلا محلَّ لها حينئذ من الإِعراب، وإنما جيء بها لهذه الفائدةِ فأُلقيت كأسماءِ الأعدادِ نحو: واحد اثنان، وهذا أصحُّ الأقوالِ الثلاثة، أعني أنَّ في الأسماء التي لم يُقْصَدِ الإِخبارُ عنها ولا بها ثلاثةَ أقوالٍ، أحدها: ما تقدَّم. والثاني: أنها مُعْرَبَةٌ، بمعنى أنها صالحة للإِعراب وإنما فات شرطٌ وهو التركيبُ، وإليه مالَ الزمخشري. والثالث: أنها موقوفةٌ لا معربةٌ ولا مبنيةٌ. أو إنْ قيل: إنها أسماءُ السورِ المفتتحةِ بها، أو إنها بعضُ أسماءِ الله تعالى حُذِف بعضُها، وبقي منها هذه الحروفُ دالَّةٌ عليها وهو رأيُ ابن عباس، كقوله: الميم من عليهم والصاد من صادق فلها حينئذٍ محلُّ إعرابٍ، ويُحْتَمَلُ الرفعُ والجرُّ/، فالرفعُ على أحد وجهين: إمَّا بكونها مبتدأ، وإمَّا بكونها خبراً كما سيأتي بيانُه مفصَّلاً. والنصب على أحَدِ وجهين أيضاً: إمَّا بإضمار فعلٍ لائقٍ تقديرُه: اقرَؤوا: ألم، وإمَّا بإسقاطِ حرف القسم كقول الشاعر:
93ـ إذا ما الخبزُ تَأْدِمُه بلَحْمٍ * فذاك أمانةَ الله الثريدُ
يريد: وأمانةِ الله، وكذلك هذه الحروفُ، أقسم الله تعالى بها، وقد ردَّ الزمخشري هذا الوجه بما معناه: أنَّ "القرآن" في {صۤ وَٱلْقُرْآنِ ذِي ٱلذِّكْرِ} [ص: 1] و "القلم" في: {نۤ وَٱلْقَلَمِ} [القلم: 1] محلوفٌ بهما لظهور الجرِّ فيهما، وحينئذ لا يخلو أن تُجْعَلَ الواوُ الداخلةُ عليهما للقسم أو للعطف، والأول يلزم منه محذورٌ، وهو الجمع بين قسمين على مُقْسَم، قال: "وهم يستكرهون ذلك"، والثاني ممنوعٌ لظهور الجرِّ فيما بعدها، والفرضُ أنك قدَّرْتَ المعطوفَ عليه في محلِّ نصب. وهو ردٌّ واضح، إلا أَنْ يقال: هي في محلِّ نصب إلا فيما ظهر فيه الجرُّ بعدَه كالموضعين المتقدمين و {حـمۤ وَٱلْكِتَابِ} [الزخرف: 1-2] و {قۤ وَٱلْقُرْآنِ} [ق: 1] ولكن القائل بذلك لم يُفَرِّقْ بين موضعٍ وموضعٍ فالردُّ لازمٌ له.
والجرُّ من وجهٍ واحدٍ وهو أنَّها مُقْسَمٌ بها، حُذِف حرف القسم، وبقي عملُه كقولهم: "واللهِ لأفعلنَّ"، أجاز ذلك أبو القاسم الزمخشري وأبو البقاء. وهذا صعيفٌ لأن ذلك من خصائص الجلالة المعظمة لاَ يَشْرَكُها فيه غيرُها.
فتلخَّص ممَّا تقدم: أن في "الم" ونحوها ستةَ أوجه وهي: أنها لا محلَّ لها من الإِعراب، أو لها محلٌّ، وهو الرفعُ بالابتداء أو الخبر، والنصبُ بإضمارِ فعلٍ أو حَذْفِ حرف القسم، والجرٌّ بإضمارِ حرفِ القسم.
وأمَّا "ذلك الكتاب" فيجوز في "ذلك" أن يكون مبتدأ ثانياً والكتابُ خبرُه، والجملةُ خبرُ "ألم"، وأغنى الربطُ باسمِ الإِشارة، ويجوز أن يكونَ "الم" مبتدأً و "ذلك" خبره و "الكتاب" صفةٌ لـ "ذلك" أو بدلٌ منه أو عطفُ بيان، وأن يكونَ "ألم" مبتدأً و "ذلك" مبتدأ ثان، و "الكتاب": إما صفةٌ له أو بدلٌ منه أو عطفُ بيان له. و{لاَ رَيْبَ فِيهِ} خبرٌ عن المبتدأ الثاني، وهو وخبرهُ خبرٌ عن الأول، ويجوز أن يكونَ "ألم" خبرَ مبتدأ مضمرٍ، تقديرُه: هذه ألم، فتكونُ جملةً مستقلةً بنفسها، ويكونُ "ذلك" مبتدأ ثانياً، و "الكتابُ" خبرُه، ويجوز أن يكونَ صفةً له أو بدلاً أو بياناً و {لاَ رَيْبَ فِيهِ} هو الخبرُ عن "ذلك"، أو يكون "الكتابُ" خبراً لـ "ذلك" و {لاَ رَيْبَ فِيهِ} خبرٌ ثانٍ، وفيه نظرٌ من حيث إنه تعدَّد الخبرُ وأحدُهما جملةٌ، لكنَّ الظاهرَ جوازُه كقوله تعالى: {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ} [طه: 20] إذا قيل إنَّ "تَسْعَى" خبرٌ، وأمَّا إن جُعِل صفةً فلا.
وقوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} يجوز أن يكونَ خبراً كما تقدَّم بيانُه، ويجوز أَنْ تكونَ هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال، والعاملُ فيه معنى الإِشارة، و "لا" نافيةٌ للجنس محمولةٌ في العمل على نقيضتها "إنَّ"، واسمُها معربٌ ومبنيٌّ، فيُبْنَى إذا كان مفرداً نكرةً على ما كان يُنْصَبُ به، وسببُ بنائِه تضمُّنُهُ معنى الحرفِ، وهو "مِنْ" الاستغراقية يدلُّ على ذلك ظهورُها في قول الشاعر:
94ـ فقام يَذُوْدُ الناسَ عنها بسيفِه * فقال: ألا لا مِن سبيلٍ إلى هندِ
وقيل: بُني لتركُّبِه معها تركيبَ خمسةَ عشرَ وهو فاسدٌ، وبيانُه في غير هذا الكتابِ.
وزعم الزجاج أنَّ حركةَ "لا رجلَ" ونحوِه حركةُ إعراب، وإنما حُذِف التنوين تخفيفاً، ويدل على ذلك الرجوعُ إلى هذا الأصلِ في الضرورةِ، كقوله:
95ـ ألا رجلاً جزاه اللهُ خيراً * يَدُلُّ على مُحَصِّلَةٍ تَبيتُ
ولا دليلَ له لأنَّ التقديرَ: ألا تَرَوْنني رجلاً؟.
فإن لم يكن مفرداً - وأعنى به المضاف والشبيهَ بهِ- أُعرب نصباً نحو: "لا خيراً من زيد" ولا عملَ لها في المعرفةِ البتة، وأمًّا نحوُ:
96ـ تُبَكِّي على زيدٍ ولا زيدَ مثلُهُ * بريءٌ من الحُمَّى سليمُ الجوانِحِ
وقول الآخر:
97ـ أرى الحاجاتِ عند أبي خُبَيْبٍ * نَكِدْنَ ولا أُمَيَّةَ في البلادِ
وقول الآخر:
98ـ لا هيثَم الليلةَ للمَطِّي
وقولِه عليه السلام: "لا قريشَ بعد اليوم، إذا هَلَكَ كسرى فلا كسرى بعدَه" فمؤولٌ.
و "ريبَ" اسمُها، وخبرُها يجوز أن يكونَ الجارَّ والمجرورَ وهو "فيه"، إلا أن بني تميم لا تكاد تَذْكر خبرَها، فالأَوْلَىٰ أن يكون محذوفاً تقديره: لا ريبَ كائنٌ، ويكون الوقف على "ريب" حينئذ تاماً، وقد يُحذف اسمها ويبقى خبرُها، قالوا: لا عليك، أي لا بأسَ عليك، ومذهبُ سيبويه أنها واسمَها في محلِّ رفع بالابتداء ولا عمَل لها في الخبر، ومذهبُ الأخفش أن اسمَها في محلِّ رفع وهي عاملةٌ في الخبر. ولها أحكامٌ كثيرةٌ وتقسيماتٌ منتشرةٌ مذكورةٌ في النحو.
واعلم أن "لا" لفظٌ مشتركٌ بين النفي، وهي فيه على قسمين: قسمٌ تنفي فيه الجنسَ فتعملُ عمَل "إنَّ" كما تقدم، وقسمٌ تنفي فيه الوِحْدة وتعملُ حينئذ عملَ ليس، وبين النهي والدعاء فتجزم فعلاً واحداً، وقد تجيء زيادةً كما تقدَّم في {وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ} [الفاتحة: 7].
و "ذلك" اسمُ إشارةٍ: الاسمُ منه "ذا"، واللامُ للبعدِ والكافُ للخطاب وله ثلاثُ رتبٍ: دنيا ولها المجردُ من اللام والكاف نحو: ذا وذي وهذا وهذي، ووسطى ولها المتصلُ بحرفِ الخطابِ نحو: ذاك وذَيْكَ وتَيْكَ، وقصوى ولها/ المتصلُ باللام والكاف نحو: ذلك وتلك، لا يجوز أن يُؤتى باللام إلا مع الكاف، ويجوز دخولُ حرفِ التنبيه على سائر أسماء الإِشارة إلا مع اللام فيمتنعُ للطول، وبعضُ النحويين لم يَذْكرْ له إلا رتبتين: دنيا وغيرَها.
واختلف النحويون في ذا: هل هو ثلاثيُّ الوضع أم أصلُه حرفٌ واحدٌ؟ الأولُ قولُ البصريين. ثم اختلفوا: هل عينُه ولامه ياء فيكونُ من باب حيي أو عينُه واوٌ ولامُه ياءٌ فيكونُ من باب طَوَيْت، ثم حُذِفت لامُه تخفيفاً، وقُلبت العينُ ألفاً لتحركها وانفتاحِ ما قبلها، وهذا كلُّه على سبيل التمرين وإلا فهذا مبنيٌّ، والمبني لا يدخله تصريف.
وإنما جيء هنا بإشارة البعيد تعظيماً للمشار إليه، ومنه:
99ـ أقولُ له والرمحُ يَأطُر مَتْنَه * تأمَّلْ خِفافاً إنَّني أنا ذلكا
أو لأنه لمَّا نَزَل من السماء إلى الأرض أُشير بإشارة البعيد [أو لأنه كان موعوداً به نبيُّه عليه السلام، أو أنه أشير به إلى ما قضاه وقدَّره في اللوحِ المحفوظِ، وفي عبارة المفسرين أُشير بذلك للغائب يَعْنُون البعيد، وإلاَّ فالمشارُ إليه لا يكون إلا حاضراً ذهناً أو حساً، فعبَّروا عن الحاضرِ ذهناً بالغائبِ أي حساً، وتحريرُ القولِ ما ذكرته لك].
والكتابُ في الأصل مصدرٌ، قال تعالى: {كِتَابَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] وقد يُراد به المكتوبُ، قال:
100ـ بَشَرْتُ عيالي إذ رأيتُ صحيفةً * أَتَتْكَ من الحَجَّاج يُتْلى كتابُها
ومثله:
101ـ تُؤَمِّلُ رَجْعَةً مني وفيها * كتابٌ مثلَ ما لَصِق الغِراءُ
وأصلُ هذه المادةِ الدلالةُ على الجمع، ومنه كتيبةُ الجيش، وكَتَبْتُ القِرْبَةَ: خَرَزْتُها، والكُتْبَةُ -بضم الكاف- الخُرْزَةُ، والجمع كُتَبٌ، قال:
102ـ وَفْراءَ غَرْفيَّةٍ أَثْأى خوارِزُها * مُشَلْشِلٌ ضَيَّعَتْهُ بينها الكُتَبُ
وكَتَبْتُ الدابَّةَ: [إذا جمعتَ بين شُفْرَي رَحِمها بحلَقةٍ أو سَيْر]، قال:
103ـ لاَ تأْمَنَنَّ فزاريَّاً حَلَلْتَ به * على قُلوصِك واكتبْها بأَسْيارِ
والكتابةُ عُرْفاً: ضمُّ بعضِ حروفِ الهجاءِ إلى بعضٍ.
والرَّيْبُ: الشكُّ مع تهمة، قال:
104ـ ليس في الحقِ يا أُمَيمةُ رَيْبٌ * إنما الريبُ ما يقول الكَذوبُ
وحقيقته على ما قال الزمخشري: قَلَقُ النفس واضطرابُها، ومنه الحديث: "دَعْ ما يَريبك إلى ما لا يَريبك"، وأنه مَرَّ بظبي خائف فقال: "لا يُرِبْهُ أحد" فليس قول من قال: "الريبُ الشكُّ مطلقاً" بجيدٍ، بل هو أخصُّ من الشكِّ، كما تقدَّم.
وقال بعضهم: في الريب ثلاثةُ معانٍ، أحدُها: الشكُّ. قال ابن الزبعرىٰ:
105ـ ليسَ في الحقِ يا أميمةُ رَيْبٌ
وثانيها التهمةُ: قال جميل بثينة:
106ـ بُثَيْنَةُ قالت: يا جميلُ أَرَبْتَني * فقلت: كلانا يابُثَيْنُ مُريبُ
وثالثها الحاجةُ، قال:
107ـ قََضَيْنا من تِهامةَ كلَّ ريبٍ * وخَيْبَرَ ثم أَجْمَعْنا السيوفا
وقوله: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} يجوز فيه عدةُ أوجهٍ، أن يكونَ مبتدأ وخبرُه "فيه" متقدماً عليه إذا قلنا: إنَّ خبرَ "لا" محذوف، وإنْ قلنا "فيه" خبرُها كان خبرُه محذوفاً مدلولاً عليه بخبر "لا" تقديره: لا ريبَ فيه، فيه هدىً، وأن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه هو هُدَىً، وأن يكونَ خبراً ثانياً لـ "ذلك"، على أن "الكتاب" صفة أو بدلٌ أو بيان، و "لا ريب" خبرٌ أول، وأن يكون خبراً ثالثاً لـ "ذلك"، على أن يكون "الكتاب" خبراً أول و "لا ريبَ" خبراً ثانياً، وأن يكونَ منصوباً على الحال من "ذلك" أو من "الكتاب" والعاملُ "فيه"، على كلا التقديرين اسمُ الإِشارةِ، وأن يكونَ حالاً ومن الضمير في "فيه"، والعاملُ ما في الجار والمجرور من معنى الفعل، وجَعْلُه حالاً ممَّا تقدَّم: إمَّا على المبالغة، كأنه نفس الهدى، أو على حذف مضاف أي: ذا هدى أو على وقوعِ المصدر موقعَ اسم الفاعل، وهكذا كلُّ مصدرٍ وقع خبراً أو صفة أو حالاً فيه الأقوالُ الثلاثةُ أرجحُها الأولُ. وأجازوا أن يكونَ "فيه" صفةً لريب فيتعلَّقَ بمحذوفٍ، وأن يكونَ متعلقاً بريب، وفيه إشكالٌ، لأنه يَصير مُطَوَّلاً، واسمُ "لا" إذا كان مطولاً أُعرِب، إلا أَنْ يكونَ مُرادُهم أنه معمولٌ لِما دَلَّ عليه "ريبَ" لا لنفس "ريب".
وقد تقدَّم معنى "الهدى" عند قوله تعالى: {ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]، و "هُدَى" مصدرٌ على فُعَل، قالوا: ولم يَجىءْ من هذا الوزن في المصادر إلا: سُرى وبُكى وهُدى، وقد جاء غيرُها، وهو: لَقِيْتُه لُقَى، قال:
108ـ وقد زعموا حِلْماً لُقاك ولم أَزِدْ * بحمدِ الذي أَعْطَاك حِلْماً ولا عَقْلا
والهُدى فيه لغتان: التذكير، ولم يَذْكُرِ اللِّحياني غيرَه، وقال الفراء: "بعضُ بني أسد يؤنِّثُه فيقولون: هذه هدىً".
و "في" معناها الظرفية حقيقةً أو مجازاً، نحو: زيدٌ في الدار، {وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 197]، ولها معانٍ أُخَرُ: المصاحَبَةَ نحو: {ٱدْخُلُواْ فِيۤ أُمَمٍ} [الأعراف: 38]، والتعليلُ: "إنَّ امرأةً دخلتِ النارَ في هرة"، وموافقةُ "على": {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ} [طه: 71]، والباء: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} [الشورى: 11] أي بسببه، والمقايَسَةُ: {فَمَا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا فِي ٱلآخِرَةِ} [التوبة: 38].
والهاءُ في "فيه" أصلُها الضمُّ كما تقدَّم من أنَّ هاءَ الكنايةِ أصلُها الضمُّ، فإنْ تَقَدَّمها ياءٌ ساكنةٌ أو كسرةٌ كَسَرَها غيرُ الحجازيين، وقد قرأ حمزة: "لأهلهُ امكثوا" وحفص في "عاهد عليهُ الله"، "وما أنسانيهُ إلا" بلغةِ الحجاز، والمشهورُ فيها - إذا لم يَلِها ساكنٌ وسَكَنَ ما قبلها نحو: فيه ومنه - الاختلاسُ، ويجوز الإِشباعُ، وبه قرأ ابن كثير، فإنْ تحرَّك ما قبلها أُشْبِعَتْ، وقد تُخْتَلَسُ وتُسَكَّن، وقرئ ببعضِ ذلك كما سيأتي مفصلاً.
و "للمتقين" جارٌّ ومجرورٌ متعلقٌ بـ "هُدَى". وقيل: صفةٌ لهدى، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، ومحلُّه حينئذٍ: إمَّا الرفعُ أو النصبُ بحسَبِ ما تقدم في موصوفه، أي: هدىً كائنٌ أو كائناً للمتقين. والأحسنُ من هذه الوجوه المتقدمة كلِّها أن تكونَ كلُّ جملةٍ مستقلةً بنفسها، فـ "ألم" جملةٌ إنْ قيلَ إنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ، و "ذلك الكتاب" جملةٌ، و "لا ريبَ" جملةٌ، و "فيه هدى" جملةٌ، وإنما تُرِكَ العاطفُ لشدةِ الوَصْلِ، لأنَّ كلَّ جملةٍ متعلقةٌ بما قبلها آخذةٌ بعُنُقِها تعلُّقاً لا يجوزُ معه الفصلُ بالعطفِ. قال الزمخشري ما معناه: فإن قلت: لِمَ لَمْ يتقدَّمِ الظرفُ على الريب كما قُدِّم على "الغَوْل" في قوله تعالى: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} ؟[الصافات: 47] قلت: لأنَّ تقديمَ الظرفِ ثَمَّ يُشْعِرُ بأنَّ غيرَها ما نُفِيَ عنها، فالمعنى: ليس فيها غَوْلٌ كما في خُمور الدنيا، فلَو قُدِّم الظرفُ هنا لأَفهمَ هذا المعنى، وهو أنَّ غيرَه من الكتبِ السماويةِ فيه ريبٌ، وليس ذلك مقصوداً، وكأنَّ هذا الذي ذكره أبو القاسم الزمخشري بناءً منه على أن التقديمَ يُفيد الاختصاصَ، وكأنَّ المعنى أنَّ خمرة الآخرة اختصَّتْ بنفي الغَوْلِ عنها بخلافِ غيرِها، وللمنازَعةِ فيه مجالٌ.
وقد رامَ بعضُهم الردَّ عليه بطريقٍ آخرَ، وهو أنَّ العربَ قد وَصَفَتْ/ أيضاً خَمْرَ الدنيا بأنها لا تَغْتَالُ العقولَ، قال علقمة:
109ـ تَشْفي الصُّداعَ ولا يُؤْذيكَ صالِبُها * وَلاَ يُخَالِطُها في الرأسِ تَدْويمُ
وما أبعد هذا من الردِّ عليه، إذ لا اعتبارَ بوَصْفِ هذا القائلِ.
فإن قيل: قد وُجِدَ الريبُ من كثيرٍ من الناس في القرآن، وقولُه تعالى: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} ينفي ذلكَ. فالجوابُ من ثلاثة أوجه، أحدُهما: أنَّ المنفيَّ كونُه متعلقاً للريبِ، بمعنى أنَّ معه من الأدلَّة ما إنْ تأمَّله المنصِفُ المُحِقُّ لم يَرْتَبْ فيه، ولا اعتبارَ بريبٍ مَنْ وُجِدَ منه الريبُ، لأنه لم ينظرْ حقَّ النظرِ، فَرَيْبُه غَيرُ مُعْتَدٍّ به. والثاني: أنه مخصوصٌ، والمعنى: لا ريبَ فيه عند المؤمنين، والثالث: أنه خبرٌ معناه النهيُ، أي لا تَرْتابوا فيه. والأول أحسنُ.
و "المتقين" جمعُ مُتَّقٍ، وأصلُهُ مُتَّقْيِيْن بياءين، الأولى لامُ الكلمة والثانيةُ علامةُ الجمع، فاستُثْقِلَتِ الكسرةُ على لام الكلمة وهي الياءُ الأولى فحُذِفَت، فالتقى ساكنان، فحُذِف إحداهما، وهي الأولىٰ، ومتَّقٍ من اتَّقَى يتَّقِي وهو مُفْتَعِل من الوقاية، إلا أنه يَطَّرِدُ في الواو والياء إذا كانا فاءَيْن ووقَعَتْ بعدَهما تاءُ الافتعالِ أن يُبْدَلا تاءً نحو: اتَّعَدَ من الوَعْد، واتَّسَرَ من اليُسْر، وفِعْلُ ذلك بالهمزة شَاذٌّ، قالوا: اتَّزر واتَّكل من الإِزار والأكل.
ولافْتَعَلَ اثنا عشرَ معنىً: الاتخاذ نحو: اتَّقى، والتَّسَبُّب نحو: اعْتَمَلَ، وفعلُ الفاعلِ بنفسِهِ نحو: اضطرب، والتخيُّر نحو: انتخب، والخطف نحو: اسْتَلَبَ، ومطاوعةُ أفْعَل نحو: انْتَصَفَ مطاوعُ أَنْصَفَ، ومطاوعةُ فَعَّل نحو: عَمَّمْتُه فاعتمَّ، وموافقةُ تفاعَلَ وتفعَّل واسْتَفْعَلَ نحو: اجْتَوَر واقتسَمَ واعتصَرَ، بمعنى تجاور وتقسَّم واسْتَعْصَمَ، وموافقةُ المجرد نحو: اقتَدَرَ بمعنى قَدَر، والإِغناءُ عنه نحو: استلم الحجرَ، لم يُلفظ له بمجردٍ.
والوِقايةُ: فَرْطُ الصيانة وشِدَّةُ الاحتراسِ من المكروه، ومنه: فرسٌ واقٍ إذا كان يقي حافرُه أدنى شيءٍ يُصيبه. وقيل: هي في أصل اللغة قلةُ الكلام، وفي الحديث: "التقيُّ مُلْجَمٌ". ومن الصيانة قوله:
110ـ سَقَطَ النَّصِيفُ ولم تُرِدْ إسقاطَه * فتناوَلَتْه واتَّقَتْنَا باليَدِ
وقال آخر:
111ـ فَأَلْقَتْ قناعاً دونَه الشمسُ واتَّقَتْ * بأحسنِ مَوْصولينِ كَفٍّ ومِعْصَمِ
   
{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }
{ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ}: "الذين" يَحْتمل الرفعَ والنصبَ والجرَّ، والظاهرُ الجرُّ، وهو من ثلاثة أوجه، أظهرُها: أنه نعتٌ للمتقين، والثاني: بدلٌ، والثالث: عطفُ بيان، وأمَّا الرفعُ فمن وجهَيْنِ، أحدُهما: أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ على معنى القطع، وقد تقدَّم. والثاني: أنه مبتدأ، وفي خبره قولان: أحدهما: أولئك الأولى، والثاني: أولئك الثانية والواوُ زائدةٌ. وهذان القولان رديئان مُنْكَران لأنَّ قولَه: "والذين يؤمنون" يمنع كونَ "أولئك" الأولى خبراً، ووجودُ الواوِ يمنع كونَ "أولئك" الثانية خبراً أيضاً، وقولُهم الواوُ زائدةٌ لا يُلْتفَتْ إليه. والنصبُ على القطع، و "يؤمنون" صلةٌ وعائدٌ، وهو مضارعٌ، علامةُ رفعهِ النونُ، لأنه أحدُ الأمثلةِ الخمسةِ. والأمثلةُ الخمسةُ عبارةٌ عن كل فعلٍ مضارعٍ اتصلَ به ألفُ اثنين أو واوُ جمع أو ياءُ مخاطبةٍ، نحو: يؤمنان تؤمنان يؤمنون تؤمنون تؤمنين. والمضارعُ معربٌ أبداً، إلا أن يباشرَ نونَ توكيدٍ أو إناثٍ، على تفصيلٍ يأتي إن شاء الله تعالى في غضونِ هذا الكتاب.
وهو مضارعُ آمَنَ بمعنى صَدَّقَ، وآمَنَ مأخوذٌ من أَمِنَ الثلاثي، فالهمزة في "أَمِنَ" للصيرورة نحو: أَعْشَبَ المكانُ أي: صار ذا عشبٍ، أو لمطاوعةِ فَعَّلَ نحو: كَبَّ فَأَكَبَّ، وإنما تعدَّى بالباء لأنه ضُمِّن معنى اعترف، وقد يتعدَّى باللام كقوله تعالى: {وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} [يوسف: 17] {فَمَآ آمَنَ لِمُوسَىٰ} [يونس: 83] إلا أنَّ في ضمنِ التعدية باللام التعديةَ بالباء، فهذا فَرْقُ ما بين التعديتين.
وأصلُ "يُؤْمِنون": يُؤَأْمِنُون بهمزتين، الأولى: همزةُ أَفْعَل، والثانيةُ: فاء الكلمةِ، حُذِفَت الأولى لقاعدة تصريفية، وهو أن همزة أفْعل تُحْذَف بعد حرفِ المضارعةِ واسمِ فاعله ومفعولِه نحو: أُكْرِمُ وتُكْرم ويُكْرم ونُكْرم وأنتَ مُكْرِم ومُكْرَم، وإنما حُذِفَت لأنه في بعض المواضع تجتمع همزتان، وذلك إذا كان حرفُ المضارَعةِ همزةً نحو: أنا أُكرم. الأصل: أُأَكْرِمُ بهمزتين، الأولى: للمضارَعةِ، والثانيةُ: هَمزَةُ أَفْعل، فحُذِفَت الثانيةُ لأنَّ بها حَصَل الثِّقَلُ، ولأن حرفَ المضارَعَةِ أَوْلَىٰ بالمحافظةِ عليه، ثم حُمِل باقي البابِ على ذلك طَرْداً لِلْبابِ، ولا يجوز ثبوتُ همزةِ أَفْعَل في شيء من ذلك، إلا في ضرورة كقوله:
112ـ فإنَّه أَهْلٌ لأِنْ يُؤَكْرَما * ........................
و "بالغيبِ" متعلِّق بيؤمنون، ويكون مصدراً واقعاً موقعَ اسمِ الفاعلِ أو اسمِ المفعولِ. وفي هذا الثاني نظرٌ لأنه مِنْ غابَ وهو لازمٌ فكيف يُبْنَى منه اسمُ مفعولٍ حتى يَقَعَ المصدرُ موقعَه؟ إلا أن يقال إنه واقعٌ موقعَ اسمِ المفعولِ من فَعَّل مضعفاً متعدياً أي المغيَّب وفيه بُعْدٌ. وقال الزمخشري: "يجوز أن يكون مخفَّفاً من فَيْعِل نحو: هَيْن من هيِّنٍ، ومَيْت من مَيِّت"، وفيه نظرٌ لأنه لا ينبغي أن يُدَّعى ذلك فيه حتى يُسمَعَ مثقلاً كنظائره، فإنها سُمِعَتْ مخفَّفةً ومثقَّلةً، ويَبْعُد أن يقالَ: التُزِم التخفيفُ في هذا خاصةً. ويجوز أن تكونَ الباءُ للحال فيتعلَّقَ بمحذوف أي: يُؤْمِنُون ملتبسينَ بالغَيْب عن المؤمِنِ بهِ، والغيبُ حينئذٍ مصدرٌ على بابه.
وهمزةُ يُؤْمِنُون -وكذا كلُّ همزةٍ ساكنةٍ- يجوز أن تُدَيَّر بحركةِ ما قبلها فَتُبْدَلَ حرفاً/ مجانساً نحو: راس وبير ويُؤمن، فإن اتَّفق أن يكونَ قبلها همزةٌ أخرىٰ وَجَبَ البدلُ نحو إيمان وآمن.
و "يُقيمون" عطفٌ على "يُؤمنون" فهو صلةٌ وعائدٌ. وأصلُه يُؤَقْوِمُونَ حُذفت همزةُ أَفْعَل لوقوعها بعد حرفِ المضارَعة كما تقدَّم فصار يُقْوِمون، فاستُثْقِلَتْ الكسرةُ على الواوِ فَفُعِل فيه ما فُعِل في "مستقيم"، وقد تقدَّم في الفاتحة. ومعنى يُقيمون: يُدِيمون أو يُظْهِرون، قال الشاعر:
113ـ أَقَمْنا لأهلِ العِراقَيْنِ سوقَ الـ * ـطِعانِ فخاموا وولَّوْا جميعاً
وقال آخر:
114ـ وإذا يُقال أتيتُمُ لم يَبْرحوا * حتى تقيمَ الخيلُ سوقَ طِعانِ
و "الصلاةَ" مفعول به ووزنُها: فَعَلَة، ولامها واو لقولهم: صَلَوات، وإنما تحرَّكت الواوُ وانفتحَ ما قبلها فقُلِبت ألفاً، واشتقاقُها من الصَّلَوَيْنِ وهما: عِرقانِ في الوِرْكين مفترقانِ من الصَّلا وهو عِرْقٌ مستبطِنٌ في الظهر منه يتفرَّق الصَّلَوان عندَ عَجْب الذَّنْب، وذلك أن المصلِّي يحرِّك صَلَوَيْه، ومنه المُصَلِّي في حَلْبة السباق لمجيئِه ثانياً عند صَلَوَي السابق. والصلاةُ لغةً: الدعاءُ، قال:
115ـ تقول بِنْتي وقد قَرَّبْتُ مُرْتَحَلا * يا ربِّ جَنِّبْ أبي الأَوْصَابَ والوَجَعا

عليكِ مثلُ الذي صَلَّيْتِ فاغتمضي * يوماً فإنَّ لجَنْبِ المَرْءِ مُضطجَعَا
أي: مثلُ الذي دَعَوْتِ، ومثلُه:
116ـ لها حارِسٌ لا يَبْرَحُ الدهرَ بيتَها * وإن ذُبِحَتْ صَلَّى عليها وَزَمْزَما
وفي الشرع: هذه العبادةُ المعروفة، وقيل: هي مأخوذةٌ من اللزوم، ومنه: "صَلِيَ بالنار" أي لَزِمَها، [قال]:
117ـ لم أَكُنْ مِنْ جُناتِها عَلِمَ اللـ * ـهُ وإني بحَرِّها اليومَ صالي
وقيل: من صَلَيْتُ العودَ بالنار أي قوَّمْتُه بالصِّلاء وهو حَرُّ النار، إذا فَتَحْتَ قَصَرْتَ وإن كَسَرْتَ مَدَدْتَ، كأنَّ المُصَلِّي يُقَوِّم نفسه، قال:
118ـ فلا تَعْجَلْ بأمرِكَ واستَدِمْهُ * فما صَلَّىٰ عَصاكَ كمُسْتديمِ
ذكر ذلك جماعةٌ أَجِلَّة وهو مُشْكِلٌ، فإن الصلاة مِنْ ذواتِ الواوِ وهذا من الياء.
و {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} جارٌّ ومجرور متعلِّق بـ"يُنْفِقون"، و "ينفقون" معطوفٌ على الصلة قبله، و "ما" المجرورةُ تحتمل ثلاثة أوجهٍ، أحدُها: أنْ تكونَ اسماً بمعنى الذي، ورزقناهم صلتُها، والعائدُ محذوفٌ، قال أبو البقاء: "تقديره: رزقناهموه أو رزقناهم إياه"، وعلى كل واحد من هذين التقديرين إشْكالٌ، لأنَّ تقديرَه متصلاً يلزم منه اتصال الضمير مع اتحاد الرتبة، وهو واجبُ الانفصال، وتقديرُه منفصلاً يمنع حذفَه؛ لأنَّ العائدَ متى كان منفصلاً امتنع حَذْفُه، نصُّوا عليه، وعَلَّلوه بأنه لم يُفْصَلْ إلا لِغَرضٍ، وإذا حُذِفَ فاتَتِ الدلالةُ على ذلك الغرضِ. ويمكن أن يُجاب عن الأولِ بأنه لمَّا اختلَفَ الضميران جَمْعاً وإفراداً وإن اتَّحدا رتبةً جاز اتصالُه، ويكون كقوله:
119ـ وقد جَعَلَتْ نفسي تَطيبُ لِضَغمَةٍ * لِضَغْمِهماها يَقْرَعُ العظمَ نَابُها
وأيضاً فإنه لا يلزمُ مِنْ مَنْعِ ذلك ملفوظاً به مَنْعُه مقدَّراً لزَوالِ القُبْح اللفظي. وعن الثاني بأنه إنما يُمنع لأجلِ اللَّبْس الحاصلِ ولا لَبْسَ هنا. الثاني: يجوز أن يكونَ نكرةً موصوفةً، والكلامُ في عائِدها كالكلامِ في عائِدها موصولةً تقديراً واعتراضاً وجواباً. الثالث: أن تكونَ مصدريةً، ويكونُ المصدرُ واقعاً موقعَ المفعول أي: مرزوقاً، وقد مَنَع أبو البقاء هذا الوجهَ قال: "لأنَّ الفِعْلَ لا يُنْفَقُ" من أنَّ المصدر مرادٌ به المفعولُ.
والرزقُ لغةً: العطاءُ، وهو مصدرٌ، قال تعالى: {وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً} [النحل: 75]، وقال الشاعر:
120ـ رُزِقْتَ مالاً ولم تُرْزَقْ منافِعَه * إنَّ الشقيَّ هو المَحْرُوم ما رُزِقا
وقيل: يجوز أن يكونَ "فِعلاً" بمعنى مَفْعول نحو: ذِبْح ورِعْي، بمعنى مذبوح وَمَرْعِيّ. وقيل: الرزق بالفتح مصدرٌ، وبالكسر اسم، وهو في لغة أزد شنوءة الشكر ومنه: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] وسيأتي في موضعه]، ونفق الشيء نَفِد، وكلُّ ما جاء ممَّا فاؤُه نونٌ وعينُه فاءٌ فدالٌ على معنى الخروج والذهاب ونحو ذلك إذا تأمَّلت، قال الزمخشري، وهو كما قال نحو: نَفِد نَفَق نَفَر نَفَذ نَفَس نَفَش نَفَثَ نفح نفخ نَفَضَ نَفَل، وَنَفق الشيءُ بالبيع نَفَاقاً ونَفَقَت الدابَّةُ: ماتَتْ نُفوقاً: والنفقَةُ: اسمُ المُنْفَق.
و "مِنْ" هنا لابتداء الغاية، وقيل: للتبعيض، ولها معانٍ أُخر: بيانُ الجنس: {فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَانِ} [الحج: 30]، والتعليل: {يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَاعِقِ} [البقرة: 19]، والبدلُ: {بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلآخِرَةِ} [التوبة: 38]، والمجاوزةُ: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} [آل عمران: 121]، وانتهاء الغاية قريبٌ منه، والاستعلاءُ: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ ٱلْقَوْمِ} [الأنبياء: 77]، والفصلُ: {يَعْلَمُ ٱلْمُفْسِدَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِ} [البقرة: 220]، وموافقةُ الباءِ وفي: {يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45]، {مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلأَرْضِ} [فاطر: 40]، والزيادةُ باطِّراد، وذلك بشرطين: كون المجرورِ نكرةً والكلامِ غيرَ موجَبٍ، واشترط الكوفيون التنكيرَ فقط، ولم يَشْترط الخفشُ شيئاً.
والهمزةُ في "أَنْفَقَ" للتعدية، وحُذِفَتْ من "ينفقون" لِما تقدَّم في {يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 3].
   
{ وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ }
قوله تعالى: {وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ}: الذين عطفٌ على "الذين" قبلَها، ثم لك اعتباران: أن يكونَ من باب عَطْفِ بعضِ الصفاتِ على بعض كقوله:
121ـ إلى المَلِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمامِ * وليثِ الكتيبة في المُزْدَحَمْ
وقوله:
122ـ يا ويحَ زيَّابَة للحارثِ ال * صابحِ فالغانمِ فالآئِبِ
يعني: أنهم جامعونَ بين هذه الأوصافِ إن قيل إن المرادَ بهما واحدٌ.
والثاني: أن يكونوا غيرهم. وعلى كلا القولينِ فيُحكم على موضعِه بما حُكم على موضعِ "الذين" المتقدمة من الإِعرابِ رفعاً ونصباً وجَرًّا قَطْعاً واتباعاً، كما مرَّ تفصيله، ويجوز أن يكونَ عطفاً على "المتقين"، وأن يكونَ مبتدأ خبرُه "أولئك" وما بعدها إن قيل إنهم غيرُ "الذين" الأولى، و "يؤمنون" صلةٌ وعائدٌ.
و "بما أُنْزِلَ" متعلِّقٌ به و "ما" موصولةٌ اسميةٌ، و "أُنْزِلَ" صلتُها وهو فِعْلٌ مبني للمفعول، والعائدُ هو الضميرُ القائمُ مقامَ الفاعلَ، ويَضْعُف أن يكونَ نكرةً موصوفةً، وقد منع أبو البقاء من ذلك، قال: "لأنَّ النكرةَ الموصوفةَ لا عموم فيها، ولا يكمُل الإِيمانُ إلا بجميعِ ما أُنزل".
و "إليك" متعلِّقٌ بـ "أُنزل"، ومعنى "إلى" انتهاءُ الغاية، ولها معانٍ أُخَرُ: المصاحَبَةُ: {وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2]، والتبيين: {رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ} [يوسف: 33]، وموافقة اللام وفي ومِنْ: {وَٱلأَمْرُ إِلَيْكِ} [النمل: 33] أي لك: وقال النابغة:
123ـ فلاَ تَتْرُكَنِّي بالوعيدِ كأنني * إلى الناسِ مَطْلِيٌّ به القار أَجْرَبُ
أي في الناس، وقال الآخر:
124ـ .......................... * أَيُسْقَى فلا يُرْوى إليَّ ابنُ أَحْمَرا
أي: لا يُرْوى مني، وقد تُزَادُ، قُرئ: "تَهْوَىٰ إليهم" بفتح الواو.
والكافُ في محلِّ جرٍّ، وهي ضميرُ المخاطبِ، ويتصلُ بها ما يَدُلُّ على التثنيةِ والجمعِ تذكيراً وتأنيثاً كتاءِ لمخاطب. والنزولُ: الوصول والحلولِ من غير اشتراطِ علوٍّ، قال تعالى: {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ} [الصافات: 177] أي حلَّ ووَصَل، و "ما" الثانيةُ وصلتُها عطفٌ على "ما" الأولى قَبلَها، فالكلامُ عليها وعلى صلتِها كالكلامِ على "ما" التي قبلَها، فَلْيُتأمَّلْ.
و "مِنْ قبلِك" متعلِّقٌ بـ "أُنْزِلَ"، و "مِنْ" لابتداء الغاية، و "قبل" ظرف زمان يقتضي التقدُّم، وهو نقيضٌ "بعد"، وكِلاهما متى نُكِّر أو أُضيف أُعْرِبَ، ومتى قُطع من الإِضافة لفظاً/ وأُرِيدت معنى بُني على الضم، فمِن الإِعرابِ قولُه:
125ـ فساغَ ليَ الشرابُ وكنت قَبْلاً * أكاد أَغَصُّ بالماءِ القَراحِ
وقال آخر:
126ـ ونحن قَتَلْنَا الأُسْدَ أُسْدَ خَفِيَّةٍ * فما شَرِبوا بَعْداً على لَذَّةً خَمْرا
ومن البناء قولُه تعالى: {لِلَّهِ ٱلأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} [الروم: 4]، وزعم بعضُهم أن "قبل" في الأصل وصفٌ نابَ عن موصوفِه لُزوماً، فإذا قلت: "قمتُ قبلَ زيد" فالتقدير: قمت زماناً قبلَ زمانِ قيامِ زيدٍ، فحُذِف هذا كلُّه، ونَاب عنه "قبل زيد" وفيه نظرٌ لاَ يَخْفى على مُتَأمِّله.
واعلمْ أنَّ حكمَ فوق وتحت وعلى وأوَّل حكمُ قبل وبعد فيما تقدَّم، وقرئ: "بما أَنْزَلَ إليك" مبنيَّاً للفاعلِ وهو اللهُ تعالى أو جبريلُ، وقُرئ أيضاً: أُنْزِلْ لَيْكَ بتشديد اللام، وتوجيهه أن يكونَ سكَّن آخرَ الفعل كما سكَّنه الآخر في قوله:
127ـ إنما شِعْريَ مِلْحٌ * قد خُلْط بجُلْجُلانْ
بتسكين "خُلْط" ثم حَذَف همزةَ "إليك"، فالتقى مثلان فَأَدْغَمَ.
و "بالآخرةِ" متعلِّقٌ بيوقنون، و "يُوقنون" خبرٌ عن "هم" وقُدِّم المجرورُ للاهتمام به كما قُدِّمَ المُنْفَقُ في قوله: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] لذلك، وهذه جملةٌ اسميةٌ عُطِفَتْ على الجملةِ الفعليةِ قبلَها فهي صلةٌ أيضاً، ولكنه جاء بالجملة هنا من مبتدأ وخبر بخلاف: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} لأن وصفهم بالإِيقان بالآخرةِ أَوْقَعُ مِنْ وَصْفِهم بالإِنفاق من الرزقِ فناسَبَ التأكيدَ بمجيء الجملةِ الاسميةِ، أو لئلاَّ يتكرَّرَ اللفظُ لو قيلَ: ومِمَّا رَزَقْناهم هم ينفقون.
والإِيقانُ: تحقيقُ الشيء لوضوحِه وسكونِه يقال: يَقِنَ الماءُ إذا سَكَن فظهر ما تحته، وَيَقِنْتُ الأمر بكسر القاف، ويُوقنون مِنْ أَيْقَنَ بمعنى استيقن، وقد تقدَّم أن أَفْعَل تأتي بمعنى استفعل.
والآخرة: تأنيث آخِر المقابل لأوَّل، وهي صفةٌ في الأصلِ جَرَتْ مَجْرى الأسماءِ والتقديرُ: الدار الآخرة أو النشأة الآخرة، وقد صُرِّح بهذين الموصوفين قال تعالى: {وَلَلدَّارُ ٱلآخِرَةُ خَيْرٌ} [الأنعام: 32]، وقال: {ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِىءُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلآخِرَةَ} [العنكبوت: 20] وقرئ يُؤْقِنُون بهمز الواو، كأنهم جَعَلوا ضمةَ الياء على الواوِ لأنَّ حركةَ الحرفِ بين يديه، والواوُ المضمومةُ يَطَّرِدُ قلبُها همزةً بشروط: منها ألاَّ تكونَ الحركةُ عَارضةً، وألاَّ يمكنَ تخفيفُها، وألاَّ يكونَ مُدْغماً فيها، وألاّ تكونَ زائدةً، على خلافٍ في هذا الأخير، وسيأتي أمثلةُ ذلك في سورة آل عمران على قوله: {وَلاَ تَلْوُونَ عَلَىٰ أحَدٍ} [آل عمران: 153]، فأجْرَوا الواوَ الساكنةَ المضمومَ ما قبلها مُجْرى المضمومةِ نفسِها لِما ذكرت ذلك، ومثلُ هذه القراءةِ قراءةُ قُنْبُل "بالسُّؤْقِ" [ص: 33]، و "على سُؤْقِه" [الفتح: 29]، وقال الشاعر:
128ـ أَحَبُّ المُؤْقِدينَ إليَّ موسى * وجَعْدَةُ إذ أضاءَهُما الوَقودُ
بهمز "المُؤْقدين". وجاء بالأفعالِ ِالخمسة بصيغة المضارع دلالةً على التجدُّد والحُدوثِ وأنهم كلَّ وقتٍ يفعلون ذلك. وجاء بأُنْزِل ماضياً وإن كان إيمانُهم قبلَ تمامِ نزولهِ تغليباً للحاضرِ المُنَزَّلِ على ما لم يُنَزَّلُ، لأنه لا بد من وقوعه فكأنه نَزَل، فهو من باب قولهِ: {أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ} [النحل: 1]، بل أقربُ منه لنزولِ بعضِهِ.
   
السابق التالي
10  مزيد