الرئيسية - التفاسير


* تفسير مختصر تفسير ابن كثير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق


{ وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَىٰ صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ }

يخبر تعالى عن موسى عليه السلام أنه لما جاء لميقات الله تعالى وحصل له التكليم من الله، سأل الله تعالى أن ينظر إليه فقال: { رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي } وقد أشكل حرف { لَن } هٰهنا على كثير من العلماء، لأنها موضوعة لنفي التأبيد، فاستدل به المعتزلة على نفي الرؤية في الدنيا والآخرة، وهذا أضعف الأقوال، لأنه قد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة، كما سنوردها عند قوله تعالى:وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [القيامة: 22-23]، وقوله تعالى إخباراً عن الكفاركَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } [المطففين: 15]، وقيل: إنها لنفي التأبيد في الدنيا جمعاً بين هذه الآية وبين الدليل القاطع على صحة الرؤية في الدار الآخرة، وقيل: إن هذا الكلام في هذا المقام كالكلام في قوله تعالى:لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَارَ } [الأنعام: 103]، وفي الكتب المتقدمة أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام: " يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات ولا يابس ولا تدهده " ولهذا قال تعالى: { فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَىٰ صَعِقاً } ، قال ابن جرير الطبري: " لما تجلى ربه للجبل أشار بأصبعه فجعله دكاً وأراناً أبو إسماعيل بأصبعه السبابة " ، وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية: { فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاًً } قال: هكذا بأصبعه، ووضع النبي صلى الله عليه وسلم إصبعه الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر، فساخ الجبل. قال ابن عباس: ما تجلى منه إلا قدر الخنصر { جَعَلَهُ دَكّاً } قال: تراباً { وَخَرَّ موسَىٰ صَعِقاً } قال: مغشياً عليه. وقال قتادة: { وَخَرَّ موسَىٰ صَعِقاً } قال: ميتاً، وقال الثوري: ساخ الجبل في الأرض حتى وقع في البحر فهو يذهب معه. وعن عروة بن رويم قال: كانت الجبال قبل أن يتجلى الله لموسى على الطور صماء ملساء، فلما تجلى الله لموسى على الطور دك وتفطرت الجبال فصارت الشقوق والكهوف.

وقال مجاهد في قوله: { وَلَـٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } ، فإنه أكبر منك وأشد خلقاً { فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ } فنظر إلى الجبل لا يتمالك وأقبل الجبل فدك على أوله، ورأى موسى ما يصنع الجبل فخر صعقاً، وقال عكرمة: { جَعَلَهُ دَكّاً } قال: نظر الله إلى الجبل فصار صحراء تراباً، والمعروف أن الصعق هو الغشي هٰهنا كما فسره ابن عباس وغيره، لا كما فسره قتادة بالموت، وإن كان ذلك صحيحاً في اللغة، كقوله تعالى:وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ } [الزمر: 68] فإن هناك قرينة تدل على الموت، كما أن هنا قرينة تدل على الغشي، وهي قوله: { فَلَمَّآ أَفَاقَ } والإفاقة لا تكون إلا عن غشي، { قَالَ سُبْحَانَكَ } تنزيهاً وتعظيماً وإجلالاً أن يراه أحد في الدنيا إلا مات، وقوله: { تُبْتُ إِلَيْكَ } ، قال مجاهد: أن أسألك الرؤية { وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } ، قال ابن عباس ومجاهد: من بني إسرائيل، واختاره ابن جرير.

السابقالتالي
2