الرئيسية - التفاسير


* تفسير مختصر تفسير ابن كثير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق


{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } * { وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىۤ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّاهِدِينَ } * { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ ٱلْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلصَّالِحِينَ } * { فَأَثَابَهُمُ ٱللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذٰلِكَ جَزَآءُ ٱلْمُحْسِنِينَ } * { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَآ أُوْلَـۤئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلْجَحِيمِ }

قال ابن عباس: نزلت هذه الآيات في النجاشي وأصحابه، الذين حين تلا عليهم (جعفر بن أبي طالب) بالحبشة القرآن بكوا، حتى أخضلوا لحاهم. وهذا القول فيه نظر، لأن هذه الآية مدنية، وقصة جعفر مع النجاشي قبل الهجرة، وقال سعيد بن جبير والسدي وغيرهما: نزلت في وفد بعثهم النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسمعوا كلامه ويروا صفاته، فلما رأوه وقرأ عليهم القرآن أسلموا وبكوا وخشعوا. ثم رجعوا إلى النجاشي فأخبروه. وقال عطاء بن أبي رباح: هم قوم من أهل الحبشة أسلموا حين قدم عليهم مهاجرة الحبشة من المسلمين، وقال قتادة: هم قوم كانوا على دين عيسى ابن مريم فلما رأوا المسلمين وسمعوا القرآن أسلموا ولم يتلعثموا، واختار ابن جرير أن هذه الآيات نزلت في صفة أقوام بهذه المثابة سواء كانوا من الحبشة أو غيرها. فقوله تعالى: { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } ما ذاك إلاّ لأن كفر اليهود كفر عناد وجحود، ومباهتة للحق، وغمط للناس، وتنقص بحملة العلم، ولهذا قتلوا كثيراً من الأنبياء، حتى هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة وسمّوه وسحروه، وألبوا عليه أشباههم من المشركين عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما خلا يهودي بمسلم قط إلاّ هم بقتله ".

وقوله تعالى: { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ } أي الذين زعموا أنهم نصارى من أتباع المسيح وعلى منهاج إنجيله فيهم مودة للإسلام وأهله في الجملة، وما ذاك إلاّ لما في قلوبهم إذ كانوا على دين المسيح من الرقة والرأفة، كما قال تعالى:وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً } [الحديد: 27]، وفي كتابهم: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، وليس القتال مشروعاً في ملتهم، ولهذا قال تعالى: { ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } أي يوجد فيهم القسيسون، وهم خطباؤهم وعلماؤهم، واحدهم قسيس وقس أيضاً، وقد يجمع على قسوس، والرهبان جمع راهب وهو العابد، مشتق من الرهبة وهي الخوف كراكب وركبان وفارس وفرسان. قال ابن جرير: وقد يكون الرهبان واحداً وجملة، رهابين، مثل قربان وقرابين، وقد يجمع على رهابنة، ومن الدليل على أنه يكون عند العرب واحداً قول الشاعر:
لو عاينت رهبان دير في القلل   لانحدر الرهبان يمشي ونزل
وقال ابن أبي حاتم عن جاثمة بن رئاب قال: سمعت سلمان، وسئل عن قوله: { ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً } فقال: هم الرهبان الذين هم في الصوامع والخرب، فدعوهم فيها، قال سلمان: وقرأت على النبي صلى الله عليه وسلم: { ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ } ، فأقرأني: " ذلك بأن منهم صدّيقين ورهباناً ".

السابقالتالي
2