الرئيسية - التفاسير


* تفسير مختصر تفسير ابن كثير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق


{ قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } * { وَأَنِـيبُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } * { وَٱتَّبِعُـوۤاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُـمُ ٱلْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } * { أَن تَقُولَ نَفْسٌ يٰحَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ ٱللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّاخِرِينَ } * { أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي لَكُـنتُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ } * { أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى ٱلْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَـرَّةً فَأَكُونَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } * { بَلَىٰ قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَٱسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ }

هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار بأن الله تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب منها ورجع عنها، وإن كانت مهما كانت وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر، ولا يصح حمل هذه على غير توبة، لأن الشرك لا يغفر لمن لم يتب منه، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، فأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزل:وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ } [الفرقان: 68]، ونزل: { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ }. وعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } " إلى آخر الآية. وعن عمرو بن عنبسة رضي الله عنه قال: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيخ كبير يدعم على عصاً له فقال: يا رسول الله إن لي غدرات وفجرات، فهل يغفر لي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " ألست تشهد أن لا إلٰه إلا الله "؟ قال: بلى، وأشهد أنك رسول الله، فقال صلى لله عليه وسلم: " قد غفر لك غدراتك وفجراتك " " وروى الإمام أحمد، عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ:إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } [هود: 46] وسمعته صلى الله عليه وسلم يقول: { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ }.

فهذه الأحادث كلها دالة على أن المراد أنه يغفر جميع ذلك مع التوبة، ولا يقنطن عبد من رحمة الله، وإن عظمت ذنوبه وكثرت، فإن باب الرحمة والتوبة واسع، قال الله تعالى:أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } [التوبة: 104]، وقال عزّ وجلّ:وَمَن يَعْمَلْ سُوۤءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً } [النساء: 110]، وقال جلّ وعلا في حق المنافقين:إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ فِي ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً * إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ } [النساء: 145-146]، وقال تبارك وتعالى:إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ } [البروج: 10] قال الحسن البصري رحمه الله: انظروا إلى هذا الكرم والجود قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة، والآيات في هذا كثيرة جداً، وفي " الصحيحين " عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً، ثم ندم وسأل عابداً من عباد بني إسرائيل هل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله وأكمل به مائة، ثم سأل عالماً من علمائهم هل له من توبة؟ فقال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ثم أمره بالذهاب إلى قرية يعبد الله فيها فقصدها، فأتاه الموت في أثناء الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأمر الله عزّ وجلّ أن يقيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أقرب فهو منها، فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بشبر فقبضته ملائكة الرحمة، هذا معنى الحديث، وقد كتبناه في موضع آخر بلفظه، وقال ابن عباس في قوله عزّ وجلّ: { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } الآية.

السابقالتالي
2 3