الرئيسية - التفاسير


* تفسير مختصر تفسير ابن كثير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق


{ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ } * { فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } * { قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } * { قَالَ رَبِّ ٱجْعَلْ لِّيۤ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَٱذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِبْكَارِ }

لما رأى زكريا عليه السلام أن الله يرزق مريم عليها السلام فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء، طمع حينئذ في الولد، وإن كان شيخاً كبيراً قد وهن منه العظم، واشتعل الرأس شيباً، وكانت امرأته مع ذلك كبيرة وعاقراً، ولكنه مع هذا كله سأل ربه وناداه خفياً، وقال: { رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ } أي من عندك { ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } أي ولداً صالحاً { إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ }. قال تعالى: { فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ } أي خاطبته الملائكة شفاها خطاباً أسمعته، وهو قائم يصلي في محراب عبادته، ومحل خلوته ومجلس مناجاته وصلاته، ثم أخبر تعالى عما بشرته به الملائكة: { أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ } أي بولد يوجد لك من صلبك اسمه يحيى. قال قتادة: إنما سمي يحيى لأن الله أحياه بالإيمان. وقوله: { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ }. روى العوفي عن ابن عباس في هذه الآية: { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ } أي بعيسى ابن مريم، وقال الربيع بن أنس: هو أول من صدق بعيسى ابن مريم، وقال ابن جريج: قال ابن عباس: كان يحيى وعيسى ابني خالة، وكانت أم يحيى تقول لمريم: إني أجد في بطني يسجد للذي في بطنك فذلك تصديقه له في بطن أمه، وهو أول من صدق عيسى وكلمة الله عيسى، وهو أكبر من عيسى عليه السلام وهكذا قال السدي أيضاً.

وقوله تعالى: { وَسَيِّداً } قال أبو العالية: حليماً، وقال قتادة: سيداً في العلم والعبادة، وقال ابن عباس: السيد الحليم التقي، وقال ابن المسيب: هو الفقيه العالم، وقال عطية: السيد في خُلُقه ودينه، وقال ابن زيد: هو الشريف، وقال مجاهد: هو الكريم على الله عزّ وجلّ.

وقوله تعالى: { وَحَصُوراً } روي عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد أنهم قالوا: الذي لا يأتي النساء، وعن أبي العالية والربيع بن أنس: هو الذي لا يولد له ولا ماء له، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: ليس أحد من خلق الله لا يلقاه بذنب غير يحيى بن زكريا، ثم قرأ سعيد { وَسَيِّداً وَحَصُوراً } ، ثم أخذ شيئاً من الأرض فقال: الحصور من كان ذكره مثل ذا.

وقد قال " القاضي عياض " في كتابه " الشفاء ": اعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى أنه كان { حَصُوراً } ليس كما قاله بعضهم إنه كان هيوباً أو لا ذَكر له، بل قد أنكر هذا حذَّاق المفسرين، ونقاد العلماء، وقالوا: هذه نقيصة وعيب ولا يليق بالأنبياء عليهم السلام، وإنما معناه أنه معصوم من الذنوب أي لا يأتيها كأنه حصور عنها، وقيل: مانعاً نفسه من الشهوات، وقيل: ليست له شهوة في النساء، وقد بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص، وإنما الفضل في كونها موجودة ثم يمنعها، إما بمجاهدة كعيسى، أو بكفاية من الله عزّ وجلّ كيحيى عليه السلام، ثم هي في حق من قدر عليها - وقام بالواجب فيها، ولم تشغله عن ربه - درجة عليا، وهي درجة نبينا صلى الله عليه وسلم الذي لم يشغله كثرتهن عن عبادة ربه، بل زاده ذلك عبادة بتحصينهن، وقيامه عليهن وإكسابه لهن وهدايته إياهن، بل قد صرح أنها ليست من حظوظ دنياه هو وإن كانت من حظوظ دنيا غيره فقال: " حبب إليّ من دنياكم ".

السابقالتالي
2