يقول تعالى معرّضاً بأهل مكة: { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } أي طغت وأشرت، وكفرت نعمة الله فيما أنعم به عليهم من الأرزاق، كما قال:{ وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ } [النحل: 112] - إلى قوله -{ فَأَخَذَهُمُ ٱلْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } [النحل: 113]، ولهذا قال تعالى: { فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً } أي دثرت ديارهم فلا ترى إلاّ مساكنهم، وقوله تعالى: { وَكُنَّا نَحْنُ ٱلْوَارِثِينَ } أي رجعت خراباً ليس فيها أحد، ثم قال تعالى مخبراً عن عدله، وأنه لا يهلك أحداً ظالماً له، وإنما بعد قيام الحجة عليهم، ولهذا قال: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِيۤ أُمِّهَا } وهي مكة { رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا } فيه دلالة على أن النبي الأمي رسول إلى جميع القرى من عرب وأعجام، كما قال تعالى:{ لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا } [الشورى: 7]، وقال تعالى:{ قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } [الأعراف: 158]، وتمام الدليل قوله تعالى:{ وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً } [الإِسراء: 58] الآية، فأخبر تعالى أنه سيهلك كل قرية قبل يوم القيامة، وقد قال تعالى:{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } [الإسراء: 15] فجعل تعالى بعثة النبي الأمي شاملة لجميع القرى لأنه مبعوث إلى أمها وأصلها التي ترجع إليها، وثبت في " الصحيحين " عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: " بعثت إلى الأحمر والأسود " ولهذا ختم به النبوة والرسالة، فلا نبي بعده ولا رسول، بل شرعه باق بقاء الليل والنهار إلى يوم القيامة، وقيل المراد بقوله: { حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِيۤ أُمِّهَا رَسُولاً } أي أصلها وعظيمتها كأمهات الرساتيق والأقاليم.