الرئيسية - التفاسير


* تفسير مختصر تفسير ابن كثير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَٰهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } * { وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } * { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَٰعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَٱللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }

روي عن ابن عباس أنهم كانوا أربعة آلاف وعنه كانوا ثمانية آلاف، وقال وهب بن منبه: كانوا بضعة وثلاثين ألفاً، قال ابن عباس: كانوا أربعة آلاف خرجوا فراراً من الطاعون، قالوا: نأتي أرضاً ليس بها موت، حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا قال الله لهم: { مُوتُواْ } ، فمرّ عليهم نبي من الأنبياء فدعا ربه أن يحييهم فأحياهم فذلك قوله عزّ وجلّ: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ } الآية، وذكر غير واحد من السلف أن هؤلاء القوم كانوا أهل بلدة في زمان بني إسرائيل استوخموا أرضهم، وأصابهم بها وباء شديد فخرجوا فراراً من الموت هاربين إلى البرية، فنزلوا وادياً أفيح فملأوا ما بين عدوتيه، فأرسل الله إليهم ملكين أحدهما من أسفل الوادي، والآخر من أعلاه، فصاحا بهم صيحة واحدة فماتوا عن آخرهم موتة رجل واحد فحيزوا إلى حظائر وبني عليهم جدران، وفنوا وتمزقوا وتفرقوا، فلما كان بعد دهر مرّ بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له (حزقيل) فسأل الله أن يحييهم على يديه فأجابه إلى ذلك وأمره أن يقول: أيتها العظام البالية إن الله يأمرك أن تجتمعي، فاجتمع عظام كل جسد بعضها إلى بعض، ثم أمره فنادى: أيتها العظام إن الله يأمرك أن تكتسي لحماً وعصباً وجلداً، فكان ذلك وهو يشاهد، ثم أمره فنادى: أيتها الأرواح إن الله يأمرك أن ترجع كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره، فقاموا أحياء ينظرون، قد أحياهم الله بعد رقدتهم الطويلة وهم يقولون: سبحانك لا إلٰه إلا أنت. وكان في إحيائهم عبرة ودليل قاطع على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة ولهذا قال: { إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ } أي فيما يريهم من الآيات الباهرة والحجج القاطعة والدلالات الدامغة { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } أي لا يقومون بشكر ما أنعم الله به عليهم في دينهم ودنياهم.

وفي هذه القصة عبرة ودليل على أنه لن يغني حذر من قدر، وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه، فإن هؤلاء خرجوا فراراً من الوباء طلباً لطول الحياة، فعوملوا بنقيض قصدهم وجاءهم الموت سريعاً في آن واحد، وقوله: { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي كما أن الحذر لا يغني من القدر، كذلك الفرار من الجهاد وتجنبه لا يقرب أجلاً ولا يبعده، بل الأجل المحتوم والرزق المقسوم مقدر مقنن لا يزاد فيه ولا ينقص منه كما قال تعالى:قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [آل عمران: 168]، وقال تعالى:أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } [النساء: 78]، وروينا عن أمير الجيوش وسيف الله المسلول على أعدائه خالد بن الوليد رضي الله عنه أنه قال وهو في سياق الموت: (لقد شهدت كذا وكذا موقفاً وما من عضو من أعضائي إلا وفيه رمية أو طعنة أو ضربة وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت العير فلا نامت أعين الجبناء) يعني أنه يتألم لكونه ما مات قتيلاً في الحرب، ويتأسف على ذلك ويتألم أن يموت على فراشه.

السابقالتالي
2