الرئيسية - التفاسير


* تفسير مختصر تفسير ابن كثير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق


{ يَٰـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } * { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَٰشاً وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

شرع تعالى في بيان وحدانية ألوهيته بأنه هو المنعم على عبيده بإخراجهم من العدم إلى الوجود، وإسباغه عليهم النعم الظاهرة والباطنة، بأن جعل لهم الأرض فراشاً: أي مهداً كالفراش، مقررة موطأة مثبتة كالرواسي الشامخات. { وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً } وهو السقف، كما قال تعالى:وَجَعَلْنَا ٱلسَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } [الأنبياء: 32]، { وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً } والمرادُ به السحاب هٰهنا في وقته عند احتياجهم إليه، فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار رزقاً لهم ولأنعامهم. ومضمونه: أنه الخالق الرازق مالك الدار وساكنيها ورازقهم، فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره، ولهذا قال: { فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }. وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال، قلت: " يا رسول الله أيُّ الذنب أعظم عند الله؟ قال: " أن تجعل لله ندّاً وهو خلقك " الحديث. وكذا حديث معاذ: " أتدري ما حق الله على عباده؟ " أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً " الحديث، وفي الحديث الآخر: " لا يقولنَّ أحدكم ما شاء الله وشاء فلان ولكن ليقل ما شاء الله ثم شاء فلان " وعن ابن عباس قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: " ما شاء الله وشئت، فقال: " أجعلتني لله نِدّاً؟ قل ما شاء الله وحده " ، وهذا كله صيانة وحماية لجناب التوحيد والله أعلم.

قال ابن عباس، قال الله تعالى: { يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } للفريقين جميعاً من الكفار والمنافقين، أي وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم. وعنه أيضاً { فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }: أي لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أنه لا رب لكم يرزقكم غيره. وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من التوحيد هو الحق الذي لا شك فيه. قال أبو العالية { فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً } أي عدلاء شركاء، وقال مجاهد { فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } قال: تعلمون أنه آلٰه واحد في التوراة والإنجيل.

(ذكر حديث في معنى هذه الآية الكريمة).

روى الإمام أحمد بسنده عن الحارث الأشعري أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله عز وجل أمر يحيى بن زكريا عليه السلام بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، وأنه كاد أن يبطىء بها فقال له عيسى عليه السلام إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإمّا أن تبلغهن وإمّا أن أبلغهن؟ فقال: يا أخي إني أخشى إن سبقتني أن أعذَّب أو يُخْسف بي. قال: فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد، فقعد على الشُّرف فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن. أولهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً فإن مَثَل ذلك كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله بوَرِقٍ أو ذهب فجعل يعمل ويؤدي غلّته إلى غير سيده، فأيكم يسّره أن يكون عبده كذلك؟ وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً. وأمركم بالصلاة فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت فإذا صلّيتم فلا تلتفتوا. وأمركم بالصيام فإن مَثَل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. وأمركم بالصدقة فإن مَثَل ذلك كمثل رجلٍ أسره العدوّ فشدُّوا يديه إلى عنقه وقدَّموه ليضربوا عنقه فقال لهم هل لكم أن أفتدي نفسي منكم؟ فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فكَّ نفسه. وأمركم بذكر الله كثيراً وإن مَثَل ذلك كمثل رجل طلبه العدوّ سراعاً في أثره فأتى حصناً حصيناً فتحصَّن فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله "

السابقالتالي
2 3