الرئيسية - التفاسير


* تفسير صفوة التفاسير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق


{ لاَ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } * { وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } * { وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } * { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِي كَبَدٍ } * { أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ } * { يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً } * { أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ } * { أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ } * { وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ } * { وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَينِ } * { فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ } * { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْعَقَبَةُ } * { فَكُّ رَقَبَةٍ } * { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ } * { يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ } * { أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ } * { ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْمَرْحَمَةِ } * { أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ } * { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ } * { عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ }

اللغَة: { كَبَدٍ } الكبدُ: الشدة والمشقة، وأصله من كبد الرجل كبداً إِذا وجعته كبده ثم استعمل في كل تعب ومشقة، ومنه المكابدة لمقاساة الشدائد { ٱقتَحَمَ } الاقتحامُ: الدخول بسرعة وشدة يقال: اقتحم الأمر، واقتحم الحصن إِذا رمى نفسه فيه بدون روية { ٱلْعَقَبَةَ } الطريق الوعر في الجبل { فَكُّ } الفكُّ تخليص الشيء من الشيء يقال: فككت الحبل، وفككت الأسير أي خلصته من الأسر { مَسْغَبَةٍ } مجاعة يقال: سغبَ الرجل إذا جاع وقال الراغب: هو الجوع مع التعب { مَتْرَبَةٍ } افتقار يقال: تربَ الرجل إِذا افتقر ولصق بالتراب، وأترب إِذا استغنى وكذلك أثرى { مُّؤْصَدَةٌ } مطبقة من أوصد الباب إِذا أغلقه وأطبقه.

التفسِير: { لاَ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } هذا قسمٌ، أقسم سبحانه بالبلد الحرام " مكة " التي شرَّفها الله تعالى بالبيت العتيق - قبلة أهل الشرق والغرب - وجعلها مهبط الرحمات، وإِليها تجبى ثمرات كل شيء، وجعلها حرماً آمناً، وجعل حرمتها منذ خلق السماوات والأرض، فلما استجمعت تلك المزايا والفضائل أقسم الله تعالى بها قال في التسهيل: أراد بالبلد " مكة " باتفاق، وأقسم بها تشريفاً لها { وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } أي وأنت يا محمد ساكنٌ ومقيم بمكة بلد الله الأمين قال البيضاوي أقسم بالبلد الحرام وقيَّده بحلوله عليه السلام فيه - أي إقامته فيه - إظهاراً لمزيد فضله، وإِشعاراً بأن شرف المكان بشرف أهله { وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } أي وأُقسم بآدم وذريته الصالحين قال مجاهد: الوالد آدم عليه السلام { وَمَا وَلَدَ } جميع ذريته قال ابن كثير: وما ذهب إِليه مجاهد وأصحابه حسنٌ قوي، لأنه تعالى لما أقسم بأُم القرى وهي المساكن، أقسم بعده بالساكن وهو " آدم " أبو البشر وولده وقال الخازن: أقسم الله تعالى بمكة لشرفها وحرمتها، وبآدم وبالآنبياء والصالحين من ذريته، لأن الكافر - وإن كان من ذريته - لا حرمة له حتى يقسم به { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِي كَبَدٍ } هذا هو المقسم عليه أي لقد خلقنا الإِنسان في تعب ومشقة، فإنه لا يزال يقاسي أنواع الشدائد، من وقت نفخ الروح فيه إلى حين نزعها منه قال ابن عباس: { فِي كَبَدٍ } أي في مشقة وشدة، من حمله، وولادته، ورضاعه، وفطامه، ومعاشه، وحياته، وموته، وأصل الكبد: الشدة، وقيل: لم يخلق الله خلقاً يكابد ما يكابد ابن آدم، وهو مع ذلك أضعف الخلق قال أبو السعود: والآية تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما كان يكابده من كفار مكة.. ثم أخبر تعالى عن طبيعة الإِنسان الجاحد بقدرة الله، والمكذب للبعث والنشور فقال { أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ } أي أيظن هذا الشقي الفاجر، المغتر بقوته، أنَّ الله تعالى لا يقدر عليه لشدته وقوته؟ قال المفسرون: نزلت في " أبي الأشد بن كلدة " كان شديداً مغتراً بقوته، وكان يبسط له الأديم - الجلد - فيوضع تحت قدميه، ويقول: من أزالني عنه فله كذا، فيجذبه عشرة فيتقطع قطعاً ولا تزلّ قدماه، ومعنى الآية: أيظن هذا القوي المارد، المستضعف للمؤمنين، أنه لن يقدر على الانتقام منه أحد؟ { يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً } أي يقول هذا الكافر: أنفقت مالاً كثيراً في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم قال الألوسي: أي يقول فخراً ومباهاة على المؤمنين: أنفقت مالاً كثيراً، وأراد بذلك ما أنفقه " رياءً وسمعةً " وعبر عن الإِنفاق بالإِهلاك، إظهاراً لعدم الاكتراث، وأنه لم يفعل ذلك رجاء نفع، فكأنه جعل المال الكثير ضائعاً، وقيل يقول ذلك إظهاراً لشدة عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم { أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ }؟ أي أيظن أنَّ الله تعالى لم يره حين كان ينفق، ويظن أن أعماله تخفى على رب العباد؟ ليس الأمر كما يظن، بل إن الله رقيب مطلعٌ عليه، سيسأله يوم القيامة ويجازيه عليه.

السابقالتالي
2 3