الرئيسية - التفاسير


* تفسير صفوة التفاسير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق


{ وَإِذ نَتَقْنَا ٱلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } * { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ } * { أَوْ تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلْمُبْطِلُونَ } * { وَكَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } * { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِي ۤ ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا فَٱنْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ } * { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلأَرْضِ وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَٱقْصُصِ ٱلْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } * { سَآءَ مَثَلاً ٱلْقَوْمُ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ } * { مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } * { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ } * { وَللَّهِ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِيۤ أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } * { وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } * { وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } * { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } * { أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىۤ أَن يَكُونَ قَدِ ٱقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } * { مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }

المنَاسَبَة: لما حكى تعالى عن بني إسرائيل عصيانهم وتمردهم على أوامر الله، حكى هنا ما عاقبهم به من اقتلاع جبل الطور وسحقهم به إن لم يعملوا بأحكام التوراة، ثم ذكر تعالى مثلاً لعلماء السَّوْء في قصة الذي انسلخ عن آيات الله طمعاً في حطام الدنيا وضرب له مثلاً بالكلب اللاهث في حالتَيْ التعب والراحة، وكفى به تصويراً لنفسية اليهود في تكالبهم على الدنيا وعبادتهم للمال.

اللغَة: { نَتَقْنَا } النتق: الجذب بقوة قال أبو عبيدة: أصل النتق قلعُ الشيء من موضعه والرميُ به { ظُلَّةٌ } الظلةُ: كل ما أظلّك من سقفٍ أو سحابةٍ أو جناح حائط والجمع ظُلَلٌ وظِلاَل { وَظَنُّوۤاْ } علموا أو أيقنوا { ٱنْسَلَخَ } الانسلاخُ: الخروجُ يقال لكل من فارق شيئاً بالكلية انسلخ منه وانسلخت الحية من جلدها أي خرجت منه { أَخْلَدَ } مال الى الشيء وركن إليه وأصله اللزوم يقال أخلد فلان بالمكان إذا لزم الإِقامة به ومنه الخلود في الجنة { يَلْهَث } قال الجوهري: لَهَثَ الكلبُ يَلْهَثُ إذا أخرج لسانه من التعب أو العطشِ { ذَرَأْنَا } خلقنا { يُلْحِدُونَ } الإِلحاد: الميلُ عن القصد والاستقامة يقال: ألحد في الدين ولحد فهو ملحد لانحرافه عن تعاليم الدين.

التفسِير: { وَإِذ نَتَقْنَا ٱلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ } أي اذكر حين اقتلعنا جبل الطور ورفعناه فوق رءوس بني إسرائيل { كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ } أي كأنه سقيفة أو ظلة غمام { وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ } أي أيقنوا أنه ساقط عليهم إن لم يمتثلوا الأمر قال المفسرون: روي أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لغلظها وثقلها فرفع الله الطور على رءوسهم وقيل لهم: إن قبلتموها بما فيها وإلاّ ليقعنَّ عليكم فلما نظروا إلى الجبل خرَّ كل واحد منهم ساجداً خوفاً من سقوطه ثم قال تعالى { خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ } أي وقلنا لهم خذوا التوراة بجد وعزيمة { وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أي اذكروا ما فيه بالعمل واعملوا به لتكونوا في سلك المتقين { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } قال الطبري: أي واذكر يا محمد إذْ استخرج ربك أولاد آدم من أصلاب آبائهم فقرّرهم بتوحيده وأشهد بعضَهم على بعض بذلك قال ابن عباس: مسح الله ظهر آدم فاستخرج منه كلَّ نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة. { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ } أي وقرّرهم على ربوبيته ووحدانيته فأقروا بذلك والتزموه { أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ } أي لئلا تقولوا يوم الحساب إنا كنا عن هذا الميثاق والإِقرار بالربوبية غافلين لم ننبه عليه { أَوْ تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ } أي ولكيلا تقولوا يوم القيامة أيضاً نحن ما أشركنا وإنما قلدنا آباءنا واتبعنا منهاجهم فنحن معذورون { أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلْمُبْطِلُونَ } أي أفتهلكنا بإشراك من أشرك من آبائنا المضلّين بعد اتباعنا منهاجهم على جهلٍ منا بالحق؟ { وَكَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي وكما بينا الميثاق نبيّن الآيات ليتدبرها الناس وليرجعوا عما هم عليه من الإِصرار على الباطل وتقليد الآباء { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِيۤ ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا فَٱنْسَلَخَ مِنْهَا } أي واتل يا محمد على اليهود خبر وقصة ذلك العالم الذي علمناه علم بعض كتب الله فانسلخ من الآيات كما تنسلخ الحية من جلدها بأن كفر بها وأعرض عنها { فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ } أي فلحقه الشيطان واستحوذ عليه حتى جعله في زمرة الضالين الراسخين في الغَواية بعد أن كان من المهتدين قال ابن عباس: هو " بلعم بن باعوراء " كان عنده اسم الله الأعظم وقال ابن مسعود: هو رجل من بني إسرائيل بعثه موسى إلى ملك " مَدْيَنَ " داعياً إلى الله فرشاه الملك وأعطاه المُلْك على أن يترك دين موسى ويتابع الملك على دينه ففعل وأضل الناس بذلك { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلأَرْضِ وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ } أي لو شئنا لرفعناه إلى منزل العلماء الأبرار ولكنه مال إلى الدنيا وسكن إليها وآثر لذتها وشهواتها على الآخرة واتبع ما تهواه نفسه فانحط أسفل سافلين { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث } أي فمثله في الخسة والدناءة كمثل الكلب إن طردته وزجرته فسعى لَهَث، وإن تركته على حاله لَهَث، وهو تمثيل بادي الروعة ظاهر البلاغة { ذَّلِكَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } أي هذا المثل السيء هو مثلٌ لكل من كذّب بآيات الله، وفيه تعريضٌ باليهود فقد أوتوا التوراة وعرفوا صفة النبي عليه الصلاة والسلام فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به وانسلخوا من حكم التوراة { فَٱقْصُصِ ٱلْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } أي اقصص على أمتك ما أوحينا إليك لعلهم يتدبرون فيها ويتعظون { سَآءَ مَثَلاً ٱلْقَوْمُ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } أي بئس مثلاً مثلُ القوم المكذبين بآيات الله { وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ } أي وما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم فإن وباله لا يتعداها { مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } أي من هداه الله فهو السعيد الموفق، ومن أضله فهو الخائب الخاسر لا محالة، والغرضُ من الآية بيان أن الهداية والإِضلال بيد الله { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ } أي خلقنا لجهنم ليكونوا حطباً لها خلقاً كثيراً كائناً من الجن والإِنس، والمراد بهم الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا } أي لهم قلوب لا يفهمون بها الحق { وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا } أي لا يبصرون بها دلائل قدرة الله بصر اعتبار { وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ } أي لا يسمعون بها الآيات والمواعظ سماع تدبر واتعاظ، وليس المراد نفي السمع والبصر بالكلية وإنما المراد نفيها عما ينفعها في الدين { أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } أي هم كالحيوانات في عدم الفقه والبصر والاستماع هم أسوأ حالاً من الحيوانات فإنها تدرك منافعها ومضارها وهؤلاء لا يميزون بين المنافع والمضار ولهذا يُقْدمون على النار { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ } أي الغارقون في الغفلة { وَللَّهِ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا } أي لله الأسماء التي هي أحسن الأسماء وأجلها لإِنبائها عن أحسن المعاني وأشرفها فسمّوه بتلك الأسماء { وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِيۤ أَسْمَآئِهِ } أي اتركوا الذين يميلون في أسمائه تعالى عن الحق كما فعل المشركون حيث اشتقوا لآلهتهم أسماء منها كاللات من الله، والعُزَّى من العزيز، ومناة من المنّان { سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي سينالون جزاء ما عملوا في الآخرة { وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } أي ومن بعض الأمم التي خلقنا أمة مستمسكة بشرع الله قولاً وعملاً يدعون الناس إلى الحق وبه يعملون ويقضون قال ابن كثير: والمراد في الآية هذه الأمة المحمدية لحديث

السابقالتالي
2 3