الرئيسية - التفاسير


* تفسير صفوة التفاسير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ وَلاَ يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ٱلأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } * { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يُحْيِـي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } * { إِنَّ ٱلْمُصَّدِّقِينَ وَٱلْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ } * { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَ وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ } * { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي ٱلأَمْوَٰلِ وَٱلأَوْلَٰدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَٰهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَٰماً وَفِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنٌ وَمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ مَتَٰعُ ٱلْغُرُورِ } * { سَابِقُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } * { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِيۤ أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَٰبٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } * { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } * { ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ } * { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِٱلْغَيْبِ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } * { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } * { ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّن فَضْلِ ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ }

المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى اغترار المنافقين والكافرين بالحياة الدنيا، نبَّه المؤمنين ألا يكونوا مثلهم، أو مثل أهل الكتاب بالاغترار بدار الفناء، ثم ضرب مثلاً للحياة الدنيا وبهرجها الخادع الكاذب، وختم السورة الكريمة ببيان فضيلة التقوى والعمل الصالح، وأرشد المؤمنين إِلى مضاعفة الأجر والنور باتباعهم هدي الرسول صلى الله عليه وسلم.

اللغَة: { يَأْنِ } يحن يقال: أني يأْني مثل رمى يرمي أي حان، قال الشاعر:
ألم يأنِ لي يا قلب أن أترك الجهلا   وأن يُحدث الشيب المبينُ لنا عقلاً
{ تَخْشَعَ } تذل وتلين { ٱلأَمَدُ } الأجل أو الزمان { يَهِيجُ } هاج الزرع إِذا جف ويبس بعد خضرته ونضارته { حُطَاماً } فُتاتاً يتلاشى بالرياح { قَفَّيْنَا } ألحقنا وأتبعنا { كِفْلَيْنِ } مثنى كفل وهو النصيب.

سَبَبُ النّزول: لما قدم المؤمنون المدينة، أصابوا من لين العيش ورفاهيته، ففتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا ونزلت هذه الآية { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ } قال ابن مسعود: " ما كان بين إِسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إِلا أربع سنوات ".

التفسِير: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ } أي أما حان للمؤمنين أن ترقَّ قلوبهم وتلين لمواعظ الله؟ { وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ } أي ولما نزل من آيات القرآن المبين؟ { وَلاَ يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلُ } أي ولا يكونوا كاليهود والنصارى الذين أعطاهم الله التوراة والإِنجيل { فَطَالَ عَلَيْهِمُ ٱلأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } أي فطال عليهم الزمن الذي بينهم وبين أنبيائهم، حتى صلبت قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة قال ابن عباس: { قست قلوبهم } مالوا إِلى الدنيا وأعرضوا عن مواعظ القرآن وقال أبو حيان: أي صلبت بحيث لا تنفعل للخير والطاعة والغرض أن الله يحذِّر المؤمنين أن يكونوا مع القرآن كاليهود والنصارى حين قست قلوبهم لما طال عليهم الزمان { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } أي وكثير من أهل الكتاب خارجون عن طاعة الله، رافضون لتعاليم دينهم، من فرط قسوة القلب قال ابن كثير: نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى، لما تطاول عليهم الزمن بدَّلوا كتاب الله الذي بأيديهم، ونبذوه وراء ظهورهم، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، فعند ذلك قست قلوبهم فلا يقبلون موعظة، ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يُحْيِـي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } أي اعلموا يا معشر المؤمنين أن الله يحيي الأرض القاحلة المجدبة بالمطر، ويخرج منها النبات بعد يبسها، وهو تمثيل لإِحياء القلوب القاسية بالذكر وتلاوة القرآن، كما تحيا الأرض المجدبة بالغيث الهتان قال ابن عباس: يلين القلوب بعد قسوتها فيجعلها مخبتةً منيبة، وكذلك يحيي القلوب الميتة بالعلم والحكمة قال في البحر: ويظهر أنه تمثيلٌ لتليين القلوب بعد قسوتها، ولتأثير ذكر الله فيها، فكما يؤثر الغيث في الأرض فتعود بعد إِجدابها مخصبة، كذلك تعود القلوب النافرة مقبلةً يظهر فيها أثر الخشوع والطاعات { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلآيَاتِ } أي وضحنا لكم الحجج والبراهين الدالة على كمال قدرتنا ووحدانيتنا { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي لكي تعقلوا وتتدبروا ما أنزل الله في القرآن { إِنَّ ٱلْمُصَّدِّقِينَ وَٱلْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } أي الذين تصدقوا بأموالهم على الفقراء ابتغاء وجه الله، والذين أنفقوا في سبيل الله وفي وجوه البر والإِحسان طيبة بها نفوسهم { يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ } أي يضاعف لهم ثوابهم بأن تكتب الحسنة بعشر أمثالها، ولهم فوق ذلك ثواب حسن جزيل وهو الجنة قال المفسرون: أصل { ٱلْمُصَّدِّقِينَ } المتصدقين أدغمت التاء في الصاد فصارت المصدّقين، ومعنى القرض الحسن هو التصدق عن طيب النفس، وخلوص النية للفقير، فكأن الإِنسان بإِحسانه إِلى الفقير قد أقرض اللهَ قرضاً يستحق عليه الوفاء في دار الجزاء { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ } أي صدَّقوا بوحدانية الله ووجوده، وآمنوا برسله إِيماناً راسخاً كاملاً، لا يخالجه شك ولا ارتياب { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَ وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ } أي أولئك الموصوفون بالإِيمان بالله ورسله، هم الذين جمعوا أعلى المراتب فحازوا درجة الصديقية والشهادة في سبيل الله قال مجاهد: كل من آمن بالله ورسله فهو صدِّيقٌ وشهيد { لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } أي لهم في الآخرة الثواب الجزيل، والنور الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ } أي والذين جحدوا بوحدانية الله وكذبوا بآياته أولئك هم المخلدون في دار الجحيم قال البيضاوي: فيه دليل على أن الخلود في النار مخصوص بالكفار، من حيث أن الصيغة تشعر بالاختصاص { أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ } والصحبة تدل على الملازمة.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7