الرئيسية - التفاسير


* تفسير صفوة التفاسير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق


{ يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } * { قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّابِئُونَ وَٱلنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } * { لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } * { وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } * { لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ ٱلْمَسِيحُ يَابَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيهِ ٱلْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ٱلنَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } * { لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَىٰ ٱللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { مَّا ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ ٱلطَّعَامَ ٱنْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ ٱلآيَاتِ ثُمَّ ٱنْظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } * { قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَٱللَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } * { قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ ٱلْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوۤاْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ } * { لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } * { كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } * { تَرَىٰ كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي ٱلْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ } * { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ وَلَـٰكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }

المنَاسَبَة: لمّا حذر تعالى المؤمنين من موالاة الكافرين، وكانت رسالته صلى الله عليه وسلم تتضمن الطعن في أحوال الكفرة والمخالفين، وهذا يستدعي مناصبتهم العداء له ولأتباعه أمره تعالى في هذه الآيات بتبليغ الدعوة، ووعده بالحفظ والنصرة، ثم ذكر تعالى طرفاً من عقائد أهل الكتاب الفاسدة وبخاصة النصارى الذين يعتقدون بألوهية عيسى وأنه ثالث ثلاثة، وردّ عليهم بالدليل القاطع والبرهان الساطع.

اللغَة: { يَعْصِمُكَ } العصمة: الحفظ والحماية { طُغْيَاناً } الطغيان: تجاوز الحد في الظلم والغلوُّ فيه { تَأْسَ } تحزن يقال: أَسِيَ يَأْسى، والأسى: الحزن قال:
وانحلبتْ عيناه من فرط الأسَى   
{ خَلَتْ } مضت { صِدِّيقَةٌ } الصدِّيق: المبالغ في الصدق وفِعِّيل من أبنية المبالغة كما يقال رجل سِكِّيت أي مبالغ في السكوت وسِكِّير أي كثير السكر { يُؤْفَكُونَ } يُصرفون عن الحق يقال: أَفَكه إِذا صرفه ومنهأَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا } [الأحقاف: 22] { تَغْلُواْ } الغلو: التجاوز في الحد والتشدد في الأمر يقال: غلا في دينه غلواً تشدّد فيه حتى جاوز الحد. سَبَبُ النّزول: أ - عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لمّا بعثني الله برسالته ضقتُ بها ذرعاً وعرفتُ أن من الناس من يكذبني فأنزل الله { يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } الآية ".

ب - وعن ابن عباس قال: " جاء جماعة من اليهود إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ألستَ تُقرُّ أن التوراة حقٌّ من عند الله؟ قال: بلى فقالوا: فإِنّا نؤمن بها ولا نؤمن بما عداها فأنزل الله { قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ.. } " الآية.

التفسِير: { يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } هذا نداءُ تشريفٍ وتعظيمٍ ناداه تعالى بأشرف الأوصاف بالرسالة الربانية أي بلّغْ رسالة ربك غير مراقب أحداً ولا خائفٍ أن ينالك مكروه { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } قال ابن عباس: المعنى بلّغْ جميع ما أُنزل إِليك من ربك فإِن كتمتَ شيئاً منه فما بلّغت رسالته، وهذا تأديب لحملة العلم من أمته ألا يكتموا شيئاً من أمر شريعته { وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ } أي يمنعك من أن ينالوك بسوء قال الزمخشري: هذا وعدٌ من الله بالحفظ والكلاءة والمعنى: والله يضمن لك العصمة من أعدائك فما عذرك في مراقبتهم؟ " روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُحرس حتى نزلت فأخرج رأسه من قبة أدَم وقال: انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله عز وجل " { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } أي إِنما عليك البلاغ والله هو الذي يهدي من يشاء فمن قُضي له بالكفر لا يهتدي أبداً { قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ } أي قل يا محمد لهؤلاء اليهود والنصارى لستم على شيء من الدين أصلاً حتى تعملوا بما في التوراة والإِنجيل وتقيموا أحكامهما على الوجه الأكمل، ومن إِقامتهما الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم { وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ } قال ابن عباس: يعني القرآن العظيم { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً } اللام للقسم أي وأقسم ليزيدنَّ هذا القرآن المنزل عليك يا محمد الكثير منهم غلواً في التكذيب وجحوداً لنبوتك وإِصراراً على الكفر والضلال { فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ } أي لا تحزن عليهم فإِن تكذيب الأنبياء عادتُهم ودأبهم، وهذه تسليةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم وليس بنهي عن الحزن ثم قال تعالى { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } أي صدّقوا الله ورسوله وهم المسلمون { وَٱلَّذِينَ هَادُواْ } وهم اليهود { وَٱلصَّابِئُونَ } وهم طائفة من النصارى عبدوا الكواكب { وَٱلنَّصَارَىٰ } وهم أتباع عيسى { مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً } أي مَنْ آمن من هؤلاء المذكورين إِيماناً صحيحاً خالصاً لا يشوبه ارتيابٌ بالله وباليوم الآخر وعمل صالحاً يقربه من الله { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } أي فلا خوفٌ عليهم فيما قدموا عليه من أهوال يوم القيامة ولا هم يحزنون على ما خلّفوا وراءهم من الدنيا بعد معاينتهم جزيل ثواب الله قال ابن كثير: والمقصود أن كلَّ فرقةٍ آمنت بالله واليوم الآخر وعملت عملاً صالحاً - ولا يكون ذلك كذلك حتى يوافق الشريعة المحمدية بعد إِرسال صاحبها المبعوث إِلى جميع الثقلين - فمن اتصف بذلك فلا خوفٌ عليهم فيما يستقبلونه ولا هم يحزنون على ما تركوه وراء ظهورهم { لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } أي أخذنا من اليهود العهد المؤكد على الإِيمان بالله ورسله قال في البحر: هذا إِخبار بما صدر من أسلاف اليهود من نقض الميثاق الذي أخذه تعالى عليهم وما اجترحوه من الجرائم العظام من تكذيب الأنبياء وقتل بعضهم، وهؤلاء أخلاف أولئك فغير بدعٍ ما يصدر منهم للرسول من الأذى والعصيان إِذ ذاك شِنْشِنةٌ من أسلافهم { وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً } أي أرسلنا لهم الرسل ليرشدوهم ويبينوا لهم أمر الدين { كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُهُمْ } أي كلما جاءهم رسول من أولئك الرسل بما يخالف أهواءهم وشهواتهم { فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } أي كذبوا طائفةً من الرسل يقتلون طائفة أخرى منهم قال البيضاوي: وإِنما جيء بـ " وقتلوا " موضع " قتلوا " على حكاية الحال الماضية استحضاراً لها واستفظاعاً للقتل وتنبيهاً على أن ذلك من ديدنهم ماضياً ومستقبلاً ومحافظةً على رءوس الآي { وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي وظنَّ بنو إِسرائيل أن لا يصيبهم بلاءٌ وعذاب بقتل الأنبياء وتكذيب الرسل اغتراراً بإِمهال الله عزّ وجلّ لهم { فَعَمُواْ وَصَمُّواْ } أي تمادوا في الغيّ والفساد فعَمُوا عن الهدى وصمّوا عن سماع الحق وهذا على التشبيه بالأعمى والأصمّ لأنه لا يهتدي إِلى طريق الرشد في الدين لإِعراضه عن النظر { ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ } قال القرطبي: في الكلام إِضمارٌ أي أُوقعت بهم الفتنةُ فتابوا فتاب الله عليهم { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ } أي عميَ كثير منهم وصمَّ بعد تبيّن الحق له { وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي عليم بما عملوا وهذا وعيدٌ لهم وتهديد، ثم ذكر تعالى عقائد النصارى الضالة في المسيح فقال { لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ } قال أبو السعود: هذا شروعٌ في تفصيل قبائح النصارى وإِبطال أقوالهم الفاسدة بعد تفصيل قبائح اليهود وهؤلاء الذين قالوا إِن مريم ولدت إِلهاً هم " اليعقوبية " زعموا أن الله تعالى حلَّ في ذات عيسى واتحد به، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً { وَقَالَ ٱلْمَسِيحُ يَابَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ } أي أنا عبدٌ مثلكم فاعبدوا خالقي وخالقكم الذي يذلّ له كل شيء ويخضع له كل موجود قال ابن كثير: كان أول كلمة نطق بها وهو صغير أن قال

السابقالتالي
2 3 4