الرئيسية - التفاسير


* تفسير صفوة التفاسير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } * { قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ } * { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ ٱللَّهَ بِدِينِكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } * { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } * { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }

المنَاسَبَة: لمَّا دعا تعالى إِلى مكارم الأخلاق ونهى عن مساوئها، وحذَّر المؤمنين من بعض الأفعال القبيحة، دعا الناس هنا جميعاً للتعارف والتآلف ونهاهم عن التفاخر بالأنساب، ثم بيَّن صفات المؤمن الكامل.

اللغَة: { يَلِتْكُمْ } ينقصكم { قَبَآئِلَ } جمع قبيلة وهي الجماعة التي يربطها حسبٌ أو نسبٌ، وهي أخصُّ من الشعب، لأن الشعب الجمع العظيم المنتسبون إِلى أصل واحد، فالشعب يجمع القبيلة، والقبيلة تجمع البطون والأفخاذ { يَرْتَابُواْ } يشكُّوا والريب: الشكُ { يَمُنُّونَ } المنُّ: الامتنان على الشخص والاعتداد عليه بفعل المعروف، وأصله في اللغة القطع ومنهفَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } [التين: 6].

سَبَبُ النّزول: عن ابن عباس قال: جاءت بنو أسدٍ إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله: أسلمنا، وقاتلتك العرب ولم نقاتلك، وأخذوا يمنون عليه فنزلت الآية الكريمة { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ.. } الآية.

التفسِير: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ } الخطاب لجميع البشر أي نحن بقدرتنا خلقناكم من أصلٍ واحد، وأوجدناكم من أب وأم فلا تفاخر بالآباء والأجداد، ولا اعتداد بالحسب والنسب، كلكم لآدم وآدمُ من تراب { وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ } أي وجعلناكم شعوباً شتى وقبائل متعددة، ليحصل بينكم التعارف والتآلف، لا التناحر والتخالف قال مجاهد: ليعرف الإِنسان نسبه فيقال فلان بن فلان من قبيلة كذا، وأصل تعارفوا تتعارفوا حذفت إِحدى التاءين تخفيفاً قال شيخ زاده: والمعنى إِن الحكمة التي من أجلها جعلكم على شعوب وقبائل هي أن يعرف بعضكم نسب بعض ولا ينسبه إِلى غير آبائه، لا أن تتفاخر بالآباء والأجداد، والنسبُ وِإِن كان يُعتبر عرفاً وشرعاً، حتى لا تُزوج الشريفة بالنبطيّ، إلا أنه لا عبرة به عند ظهور ما هو أعظم قدراً منه وأعز، وهو الإِيمان والتقوى، كما لا تظهر الكواكب عند طلوع الشمس { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ } أي إِنما يتفاضل الناس بالتقوى لا بالأحساب والأنساب، فمن أراد شرفاً في الدنيا ومنزلةً في الآخرة فليتق الله كما قال صلى الله عليه وسلم: " من سرَّه أن يكون أكرم الناس فليتَّق الله " وفي الحديث " الناسُ رجلان: رجل برٌّ تقيٍ كريم على الله تعالى، ورجل فاجر شقي هيّن على الله تعالى " { إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } أي عليمٌ بالعباد، مطلع على ظواهرهم وبواطنهم، يعلم التقي والشقي، والصالح والطالحفَلاَ تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰ } [النجم: 32]. { قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا } أي زعم الأعراب أنهم آمنوا قل لهم يا محمد: إِنكم لم تؤمنوا بعد، لأن الإِيمان تصديقٌ مع ثقة واطمئنان قلب، ولم يحصل لكم، وإِلا لما مننتم على الرسول بالإِسلام وترك المقاتلة، ولكنْ قولوا استسلمنا خوف القتل والسبي قال المفسرون: نزلت في نفرٍ من بني أسد، قدموا المدينة في سنةٍ مجدبة، وأظهروا الشهادتين، وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتيناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وفلان، يريدون الصَّدقة ويمنّون على الرسول، وقد دلت الآية على أن الإِيمان مرتبةٌ أعلى من الإِسلام، الذي هو الاستسلام والانقياد بالظاهر ولهذا قال تعالى { وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } أي ولم يدخل الإِيمان إِلى قلوبكم ولم تصلوا إِلى حقيقته بعد، ولفظةُ " لمَّا " تفيد التوقع كأنه يقول: وسيحصل لكم الإِيمان عند اطلاعكم على محاسن الإِسلام، وتذوقكم لحلاوة الإِيمان قال ابن كثير: وهؤلاء الأعراب المذكورون في هذه الآية ليسوا منافقين، وإِنما هم مسلمون لم يستحكم الإِيمان في قلوبهم، فادَّعوا لأنفسهم مقاماً أعلى مما وصلوا إِليه فأدبوا في ذلك، ولو كانوامنافقين - كما ذهب إِليه البخاري - لعُنفوا وفُضِحوا { وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً } أي وإِن أطعتم الله ورسوله بالإِخلاص الصادق، والإِيمان الكامل، وعدم المنِّ على الرسول لا ينقصكم من أجوركم شيئاً { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي عظيم المغفرة، واسع الرحمة، لأن صيغة " فعول " و " فعيل " تفيد المبالغة.

السابقالتالي
2 3