الرئيسية - التفاسير


* تفسير صفوة التفاسير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق


{ وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلْجَوَارِ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ } * { إِن يَشَأْ يُسْكِنِ ٱلرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } * { أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ } * { وَيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيۤ آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ } * { فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } * { وَٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ ٱلإِثْمِ وَٱلْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ } * { وَٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } * { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ } * { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ } * { وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ } * { إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَظْلِمُونَ ٱلنَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } * { وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى ٱلظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَىٰ مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ } * { وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ ٱلذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ ٱلْخَاسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَلاَ إِنَّ ٱلظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ } * { وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ } * { ٱسْتَجِيبُواْ لِرَبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ } * { فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ ٱلإِنسَانَ كَفُورٌ } * { لِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ } * { أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } * { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } * { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ وَلَـٰكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } * { صِرَاطِ ٱللَّهِ ٱلَّذِي لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ أَلاَ إِلَى ٱللَّهِ تَصِيرُ ٱلأُمُورُ }

المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى بعض الدلائل على وحدانيته في خلق السماوات والأرض، وما بثَّ فيهما من مخلوقات لا تُحصى، أتبعه بذكر آية أخرى تدل على وجود الإِله القادر الحكيم، وهي السفن الضخمة التي تشبه الجبال تسير بقدرته تعالى فوق سطح البحر، محمَّلة بالأقوات والأرزاق، وختم السورة الكريمة ببيان إثبات الوحي وصدق القرآن.

اللغَة: { ٱلْجَوَارِ } جمع جارية وهي السفينة سميت جارية لأنها تجري في الماء { كَٱلأَعْلاَمِ } جمع علم وهو الجبل العظيم الشاهق قالت الخنساء:
وإِنَّ صخْراً لتأْتمُّ الهُداةُ به   كأنَّهُ علمٌ في رأسهِ نارُ
{ رَوَاكِدَ } ثوابت ساكنة لا تسير، من ركدَ الماء إذا سكن ووقف عن الجري { مَّحِيصٍ } مهرب ومخلص من العذاب { يُوبِقْهُنَّ } يهلكهنَّ يقال: أوبقه أي أهلكه { ٱلْفَوَاحِشَ } جمع فاحشة وهي ما تناهى قبحه كالزنى والقتل والشرك وغيرها { نَّكِيرٍ } منكِرٌ يُنكِر ما ينزل بكم من العذاب { عَقِيماً } لا تلد.

التفسِير: { وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلْجَوَارِ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ } أي ومن علاماته الدالة على قدرته الباهرة، وسلطانه العظيم، السفنُ الجارية في البحر كأنها الجبال من عظمها وضخامتها { إِن يَشَأْ يُسْكِنِ ٱلرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهْرِهِ } أي لو شاء تعالى لأسكن الرياح وأوقفها فتبقى السفن سواكن وثوابت على ظهر البحر لا تجري { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } أي إن في تسييرها لعبراً وعظات لكل مؤمن صابر في البأساء، شاكرٍ في الرخاء قال الصاوي: أي كثير الصبر على البلايا، عظيم الشكر على العطايا وقال أبو حيان: وإِنما ذكر السفن الجارية في البحر، لما فيها من عظيم دلائل القدرة، من جهة أن الماء جسم لطيف شفاف، يغوص فيه الثقيل، والسفن تحمل الأجسام الثقيلة الكثيفة ومع ذلك جعل الله تعالى في الماء قوة يحملها بها ويمنعها من الغوص، ثم جعل الرياح سبباً لسيرها فإِذا أراد أن ترسوا أسكن الريح فلا تبرح عن مكانها، { أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا } أي وإِن يشأ يجعل الرياح عواصف فيغرق هذه السفن وأهلها بسبب ما اقترفوا من جرائم { وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ } أي ويتجاوز عن كثير من الذنوب فينجيهم الله من الهلاك { وَيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيۤ آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ } أي وليعلم الكفار المجادلون في آيات الله بالباطل، أنه لا ملجأ لهم ولا مهرب من عذاب الله قال القرطبي: أي ليعلم الكفار إِذا توسطوا البحر وغشيتهم الرياح من كل مكان أنه لا ملجأ لهم سوى الله، ولا دافع لهم إن أراد الله إهلاكهم فيخلصون له العبادة { فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } أي فما أعطيتم أيها الناس من شيء من نعيم الدنيا وزهرتها الفانية، فإِنما هو نعيم زائل، تتمتعون به مدة حياتكم ثم يزول { وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ } أي وما عند الله من الثواب والنعيم، خيرٌ من الدنيا وما فيها، لأنَّ نعيم الآخرة دائم مستمر، فلا تُقدِّموا الفاني على الباقي { لِلَّذِينَ آمَنُواْ } أي للذين صدَّقوا الله ورسوله وصبروا على ترك الملاذ في الدنيا { وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي واعتمدوا على الله وحده في جميع أمورهم { وَٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ ٱلإِثْمِ } أي وهؤلاء المؤمنون هم الذين يجتنبون كبائر الذنوب كالشرك والقتل وعقوق الوالدين { وَٱلْفَوَاحِشَ } قال ابن عباس: يعني الزنى { وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ } أي إِذا غضبوا على أحدٍ ممَّن اعتدى عليهم عفوا وصفحوا قال الصاوي:من مكارم الأخلاق التجاوز والحلم عند حصول الغضب، ولكن يشترط أن يكون الحلم غير مخلٍ بالمروءة، ولا واجباً كما إِذا انتهكت حرماتُ الله فالواجب حينئذٍ الغضب لا الحلم، وعليه قول الشافعي " من استُغضب ولم يغضب فهو حمار " وقال الشاعر " وحلمُ الفتى في غير موضعه جهل " { وَٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ } أي أجابوا ربهم إلى ما دعاهم إليه من التوحيد والعبادة قال البيضاوي: نزلت في الأنصار دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإِيمان فاستجابوا { وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ } أي أدوها بشروطها وآدابها، وحافظوا عليها في أوقاتها { وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ } أي يتشاورون في الأمور ولا يعجلون، ولا يُبرمون أمراً من مهمات الدنيا والدين إلا بعد المشورة { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } أي وينفقون مما أعطاهم الله في سبيل الله بالإِحسان إلى خلق الله { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ } أي ينتقمون ممن بغى عليهم، ولا يستسلمون لظلم المعتدي قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون أن يُذلّوا أنفسهم فتجترىء عليهم الفساق قال أبو السعود: وهو وصفٌ لهم بالشجاعة بعد وصفهم بسائر الفضائل، وهذا لا ينافي وصفهم بالغفران فإِن كلاً في موضعه محمود { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } أي وجزاء العدوان أن ينتصر ممن ظلمه من غير أن يعتدي عليه بالزيادة قال الإِمام الفخر: لما قال تعالى { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ } أردفه بما يدل على أن ذلك الانتصار يجب أن يكون مقيداً بالمثل دون زيادة، وإِنما سمَّى ذلك سيئة لأنها تسوء من تنزل به { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ } أي فمن عفا عن الظالم، وأصلح بينه وبين عدوه، فإِن الله يثيبه على ذلك الأجر الجزيل قال ابن كثير: شرع تعالى العدل وهو القصاص، وندب إلى الفضل وهو العفو، فمن عفا فإِن الله لا يضيع له ذلك كما جاء في الحديث

السابقالتالي
2 3 4