المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى قصة طُعْمة وحادثة السرقة التي اتهم بها اليهودي البريء ودفاع قومه عنه وتآمرهم في السرّ لإِيقاع البرئ بها، ذكر تعالى هنا أن موضوع النجوى لا يخفى على الله وأن كل تدبير في السرّ يعلمه الله، وأنه لا خير في التناجي إِلا ما كان بقصد الخير والإِصلاح، ثم ذكر تعالى أن مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم جرمٌ عظيم وحذَّر من الشيطان وطرق إِغوائه، ثم عاد الحديث إِلى التحذير من ظلم النساء في ميراثهن ومهورهن وأكد على وجوب الإِحسان إِليهن، وأعقبه بذكر النشوز والطريق إِلى الإِصلاح بين الزوجين إِمّا بالوفاق أو بالفراق. اللغَة: { نَّجْوَاهُمْ } النجوى: السرُّ بين الإِثنين قال الواحدي: ولا تكون النجوى إِلا بين اثنين { يُشَاقِقِ } يخالف والشقاقُ: الخلاف مع العداوة لأن كلاً من المتخالفين يكون في شق غير شق الآخر { مَّرِيداً } المريد: العاتي المتمرد من مرد إِذا عتا وتجبر قال الأزهري: مرد الرجل إِذا عتا وخرج عن الطاعة فهو مارد ومريد { فَلَيُبَتِّكُنَّ } البتك: القطع ومنه سيف باتك أي قاطع { مَحِيصاً } مهرباً من حاص إِذا هرب ونفر وفي المثل " وقعوا في حيص بيص " أي فيما لا يقدر على التخلص منه { خَلِيلاً } من الخلة وهي صفاء المودة قال ثعلب: سمي الخليل خليلاً لأن محبته تتخلل القلب فلا تدع فيه خللاً إِلا ملأته قال بشار:
قد تخلّلتِ مسلك الروح مني
وبه سمي الخليل خليلاً
{ ٱلشُّحَّ } شدة البخل { ٱلْمُعَلَّقَةِ } هي التي ليست ذات بعل ولا مطلقة. سَبَبُ النّزول: أ - لما سرق " طُعْمة بن أُبيرق " وحكم النبي صلى الله عليه وسلم عليه بالقطع هرب إِلى مكة وارتد عن الإِسلام فأنزل الله { وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ } الآية. ب - قال قتادة: تفاخر المؤمنون وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم ونحن أحقُّ بالله منكم، وقال المؤمنون: نبينا خاتم النبيين وكتابنا يقضي على سائر الكتب فنزلت { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاۤ أَمَانِيِّ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ } الآية. التفسِير: { لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ } أي لا خير في كثير مما يُسرّه القوم ويتناجون به في الخفاء { إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ } أي إِلا نجوى من أمر بصدقةٍ ليعطيها سراً أو أمر بطاعة الله قال الطبري: المعروف هو كل ما أمر الله به أو ندب إِليه من أعمال البر والخير، والإِصلاح هو الإِصلاح بين المختصمَين { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ } أي ومن يفعل ما أمر به من البر والمعروف والإِصلاح طلباً لرضى الله تعالى لا لشيء من أغراض الدنيا { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } أي فسوف نعطيه ثواباً جزيلاً هو الجنة قال الصاوي: والتعبير بسوف إِشارة إلى أن جزاء الأعمال الصالحة في الآخرة لا في الدنيا لأنها ليست دار جزاء { وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ } أي يخالف أمر الرسول فيما جاء به عن الله من بعد ما ظهر له الحق بالمعجزات { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي يسلك طريقاً غير طريق المؤمنين ويتبع منهاجاً غير منهاجهم { نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ } أي نتركه مع اختياره الفاسد وندخله جهنم عقوبة له { وَسَآءَتْ مَصِيراً } أي وساءت جهنم مرجعاً لهم { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ } أي لا يغفر ذنب الشرك ويغفر ما دونه من الذنوب لمن يريد { وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } أي فقد بَعُد عن طريق الحق والسعادة بعداً كبيراً { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً } أي ما يدعو هؤلاء المشركون وما يعبدون من دون الله إلا أوثاناً سموها بأسماء الإِناث " اللات والعزى ومناة " قال في التسهيل: كانت العرب تسمي الأصنام بأسماء مؤنثة { وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً } أي وما يعبدون إلا شيطاناً متمرداً بلغ الغاية في العتو والفجور وهو إبليس الذي فسق عن أمر ربه { لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً } أي أبعده الله عن رحمته فأقسم الشيطان قائلاً: لأتخذنَّ من عبادك الذين أبعدتني من أجلهم نصيباً أي حظاً مقدراً معلوماً أدعوهم إلى طاعتي من الكفرة والعصاة وفي صحيح مسلم يقول الله تعالى لآدم يوم القيامة