المنَاسَبَة: لما بيَّن تعالى حال الشاكرين لنعمه بذكر " داود " و " سليمان " بيَّن حال الكافرين لأنعمه بقصة سبأ، موعظةً لقريش وتحذيراً وتنبيهاً على ما جرى من المصائب والنكبات على من كفر بأنعم الله، ثم ذكَّر كفار مكة بنعمه ليعبدوه ويشكروه. اللغَة: { سَبَإٍ } قبيلة من العرب سكنت اليمن سميت باسم جدهم " سبأ بن يشجب بن قحطان " { ٱلْعَرِمِ } الحاجز بين الشيئين قال النحاس: وما يجتمع من مطر بين جبلين وفي وجهه مُسنَّاة - أي حاجز - فهو العرم { خَمْطٍ } الخمط: المرُّ البشع، قال الزجاج: كل نبتٍ فيه مرارةٌ لا يمكن أكله فهو خمط وقال المبرد: هو كل ما تغيَّر إلى ما لا يُشتهى، واللبنُ إِذا حمض فهو خمط { أَثْلٍ } الأثل: شجر لا ثمر له قال الفراء: وهو شبيه بالطرفاء إِلا أنه أعظم منه طولاً ومنه اتخذ منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم والواحدة أثلة { سِدْرٍ } قال الفراء: هو السَّرو، وقال الأزهري: السدر نوعان: سدر لا ينتفع به ولا يصلح ورقه للغسول وله ثمرة عصفة لا تؤكل، وسدر ينبت على الماء وثمره النبق وورقه غسول { ظَهِيرٍ } معين { ٱلْفَتَّاحُ } القاضي والحاكم بالحق. التفسِير: { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ } اللام موطئة للقسم أي والله لقد كان لقوم سبأ في موضع سكناهم باليمن آية عظيمة دالة على الله جل وعلا وعلى قدرته على مجازاة المحسن بإِحسانه، والمسيء بإِساءته، فإِن قوم سبأ لما كفروا نعمة الله خرَّب الله ملكهم، وشتَّت شملهم، ومزَّقهم شرَّ ممزَّق، وجعلهم عبرةً لمن يعتبر، ثم بيَّن تعالى وجه تلك النعمة فقال: { جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ } أي حديقتان عظيمتان فيهما من كل أنواع الفواكه والثمار عن يمين الوادي بساتين ناضرة، وعن شماله كذلك، قال قتادة: كانت بساتينهم ذات أشجار وثمار، تسرُّ الناس بظلالها، وكانت المرأة تمشي تحت الأشجار وعلى رأسها مكتل أو زنبيل، فيتساقط من الأشجار ما يملؤه من غير كلفةٍ ولا قطاف لكثرته ونضجه وقال البيضاوي: ولم يرد بستانين اثنين فحسب، بل أراد جماعتين من البساتين، جماعة عن يمين بلدهم، وجماعة عن شماله سميت كل جماعة منها جنة لكونها في تقاربها وتضامها كأنها جنة واحدة { كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَٱشْكُرُواْ لَهُ } أي وقلنا لهم على لسان الرسل: كلوا من فضل الله وإِنعامه واشكروا ربكم على هذه النعم { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ } أي هذه بلدتكم التي تسكنونها بلدةٌ طيبة، كريمة التربة، حسنة الهواء، كثيرة الخيرات، وربكم الذي رزقكم وأمركم بشكره ربٌ غفورٌ لمن شكره { فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ } أي فأعرضوا عن طاعة الله وشكره، واتباع أوامر رسله، فأرسلنا عليهم السيل المدمّر المخرب الذي لا يطاق لشدته وكثرته، فغرَّق بساتينهم ودورهم، قال الطبري: وحين أعرضوا عن تصديق الرسل، ثقب ذلك السدُّ الذي كان يحبس عنهم السيول، ثم فاض الماء على جناتهم فغرَّقها، وخرَّب أرضهم وديارهم { وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ } أي وأبدلناهم بتلك البساتين الغناء، بساتين قاحلة جرداء، ذات أُكل مرٍّ بشع { وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ } وشيء من الأشجار التي لا ينتفع بثمرها كشجر الأثل والسِّدر، قال الرازي: أرسل الله عليهم سيلاً غرَّق أموالهم، وخرَّب دورهم، والخمطُ كلُّ شجرة لها شوك وثمرتها مرة، والأثلُ نوع من الطرفاء، ولا يكون عليه ثمرة إِلا في بعض الأوقات، يكون عليه شيء كالعفص أو أصغر منه في طعمه وطبعه، والسدر معروف وقال فيه { قَلِيلٍ } لأنه كان أحسن أشجارهم، وقد بيَّن تعالى بالآية طريقة الخراب، وذلك لأن البساتين التي فيها الناس تكون فيها الفواكة الطيبة بسبب العمارة، فإِذا تركت سنين تصبح كالغيضة والأجمة تلتفُّ الأشجار بعضها ببعض وتنبتُ المفسدات فيها، فتقل الثمار وتكثر الأشجار قال المفسرون: وتسمية البدل " جنتين " فيه ضربٌ من التهكم، لأن الأثل والسدر وما كان فيه خمط لا يسمى جنة، لأنها أشجار لا يكاد ينتفع بها، وإنما جاء التعبير على سبيل المشاكلة { ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ } أي ذلك الجزاء الفظيع الذي عاقبناهم به إِنما كان بسبب كفرهم { وَهَلْ نُجَٰزِيۤ إِلاَّ ٱلْكَفُورَ }؟ أي وما نجازي بمثل هذا الجزاء الشديد إِلا الكافر المبالغ في كفره، قال مجاهد: أي ولا يعاقب إِلا الكفور، لأن المؤمن يكفِّر الله عنه سيئاته، والكافرُ يجازى بكل سوءٍ عمله { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً } هذا من تتمة ذكر ما أنعم الله به عليهم أي وجعلنا بين بلاد سبأ وبين القرى الشامية التي باركنا فيها للعالمين قرى متواصلة من اليمن إِلى الشام، يُرى بعضها من بعض لتقاربها، ظاهرة لأبناء السبيل { وَقَدَّرْنَا فِيهَا ٱلسَّيْرَ } أي جعلنا السير بين قراهم وبين قرى الشام سيراً مقدراً من منزل إِلى منزل، ومن قرية إِلى قرية { سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ } أي وقلنا لهم سيروا بين هذه القرى متى شئتم لا تخافون في ليل ولا في نهار، قال الزمخشري: كان الغادي منهم يقيل في قرية، والرائح يبيت في قرية إلى أن يبلغ الشام، لا يخاف جوعاً ولا عطشاً ولا عدواً، ولا يحتاج إِلى حمل زاد ولا ماء، وكانوا يسيرون آمنين لا يخافون شيئاً { فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } إِخبارٌ بما قابلوا به النعم من الكفران أي أنهم حين بطروا النعمة، وملوا العافية، وسئموا الراحة طلبوا من الله أن يباعد بين قراهم المتصلة ليمشوا في المفاوز ويتزودوا للأسفار، فعجَّل الله إِجابتهم، بتخريب تلك القرى وجعلها مفاوز قفاراً { وَظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ } أي وظلموا أنفسهم بكفرهم وجحودهم النعمة { فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } أي جعلناهم أخباراً تُروى اللناس بعدهم { وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } أي وفرقناهم في البلاد شذر مذر { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } أي إن فيما ذكر من قصتهم لعبراً وعظات لكل عبد صابرٍ على البلاء، شاكر في النعماء، والمقصود من ذكر قصة سبأ تحذير الناس من كفران النعمة لئلا يحل بهم ما حل بمن قبلهم، ولهذا أصبحت قصتهم يضرب بها المثل فيقال: " ذهبوا أيدي سبأ " ثم ذكر تعالى سبب ضلال المشركين فقال { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } أي تحقق ظن إِبليس اللعين في هؤلاء الضالين، حيث ظنَّ أنه يستطيع أن يغويهم بتزيين الباطل لهم، وأقسم بقوله