الرئيسية - التفاسير


* تفسير صفوة التفاسير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ ءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } * { ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } * { إِذْ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } * { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَىٰ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلأُنْثَىٰ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ } * { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } * { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ } * { فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } * { قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } * { قَالَ رَبِّ ٱجْعَلْ لِّيۤ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَٱذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِبْكَارِ }

المنَاسَبَة: لما بيّن تعالى أن محبته لا تتم إِلا بمتابعة الرسل وطاعتهم، بيّن علوَّ درجات الرسل وشرف مناصبهم، فبدأ بآدم أولهم، وثنَّى بنوح أبي البشر الثاني، ثم أتى ثالثاً بآل إِبراهيم فاندرج فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه من ولد إِسماعيل، ثم أتى رابعاً بآل عمران فاندرج فيه عيسى عليه السلام، وأعقب ذلك بذكر ثلاث قصص: قصة ولادة مريم، وقصة ولادة يحيى، وقصة ولادة عيسى، وكلها خوارق للعادة تدل على قدرة العلي القدير.

اللغَة: { ٱصْطَفَىٰ } اختار وأصله من الصفوة أي جعلهم صفوة خلقه { مُحَرَّراً } مأخوذ من الحرية وهو الذي يُجعل حراً خالصاً، والمراد الخالص لله عز وجل الذي لا يشوبه شيء من أمر الدنيا { أُعِيذُهَا } عاذ بكذا: اعتصم به { وَكَفَّلَهَا } الكفالة: الضمان يقال كفَلَ يكْفُل فهو كافل، وهو الذي ينفق على إِنسانٍ ويهتم بمصالحه وفي الحديث " أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين " { ٱلْمِحْرَابَ } الموضع العالي الشريف، قال أبو عبيدة: سيد المجالس وأشرفها ومقدمها وكذلك هو من المسجد { حَصُوراً } من الحصر وهو الحبس، وهو الذي يحبس نفسه عن الشهوات، وللمفسرين في معناه قولان نختار منهما ما اختاره المحققون: أنه الذي لا يأتي النساء لا لعجزٍ بل للعفة { عَاقِرٌ } عقيم لا تلد والعاقر من لا يولد له من رجلٍ أو امرأة { رَمْزاً } الرمز: الإِشارة باليد أو بالرأس أو بغيرهما قال الطبري: الإِيماء بالشفتين وقد يستعمل في الحاجبين والعينين { ٱلْعَشِيِّ } من حين زوال الشمس إلى غروبها { ٱلإِبْكَارِ } من طلوع الشمس إِلى وقت الضحى قال الشاعر:
فلا الظلُّ من برد الضحى تستطيعه   ولا الفيء من برد العشيّ تذوق
التفسِيْر: { إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ ءَادَمَ } أي اختار للنبوة صفوة خلقه منهم آدم أبو البشر { وَنُوحاً } شيخ المرسلين { وَآلَ إِبْرَاهِيمَ } أي عشيرته وذوي قرباه وهم إِسماعيل وإِسحاق والأنبياء من أولادهما ومن جملتهم خاتم المرسلين { وَآلَ عِمْرَان } أي أهل عمران ومنهم عيسى بن مريم خاتم أنبياء بني إِسرائيل { عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } أي عالمي زمانهم قال القرطبي: وخصَّ هؤلاء بالذكر من بين الأنبياء لأن الأنبياء والرسل جميعاً من نسلهم { ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } أي اصطفاهم متجانسين في الدين والتُّقى والصلاح { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي سميع لأقوال العباد عليم بضمائرهم { إِذْ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ عِمْرَانَ } أي اذكر لهم وقت قول امرأة عمران واسمها " حنَّة بنت فاقود " { رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي } أي نذرت لعبادتك وطاعتك ما أحمله في بطني { مُحَرَّراً } أي مخلصاً للعبادة والخدمة { فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } أي السميع لدعائي العليم بنيّتي { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَىٰ } أي لمَّا ولدتها قالت على وجه التحسر والاعتذار يا رب إِنها أنثى قال ابن عباس: إِنما قالت هذا لأنه لم يكن يُقبل في النذر إِلا الذكور فقبل الله مريم قال تعالى { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } أي والله أعلم بالشيء الذي وضعت قالت ذلك أولم تقله { وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلأُنْثَىٰ } أي ليس الذكر الذي طَلَبْته كالأنثى التي وُهِبتها بل هذه أفضل والجملتان معترضتان من كلامه تعالى تعظيماً لشأن هذه المولودة وما علّق بها من عظائم الأمور وجعلها وابنها آية للعالمين { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } من تتمة كلام امرأة عمران والأصل إِني وضعتُها أنثى وإِني سميتُها مريم أي أسميت هذه الأنثى مريم ومعناه في لغتهم العابدة خادمة الرب { وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ } أي أُجيرها بحفظك وأولادها من شر الشيطان الرجيم، فاستجاب الله لها ذلك قال تعالى { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ } أي قبلها الله قبولاً حسناً قال ابن عباس: سلك بها طريق السعداء { وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً } أي ربّاها تربية كاملة ونشأها تنشئة صالحة { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } أي جعل زكريا كافلاً لها ومتعهداً للقيام بمصالحها، حتى إِذا بلغت مبلغ النساء انزوت في محرابها تتعبد الله { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً } أي كلما دخل عليها زكريا حجرتها ومكان عبادتها وجد عندها فاكهة وطعاماً، قال مجاهد: وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف { قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا }؟ أي من أين لك هذا؟ { قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي رزقاً واسعاً بغير جهد ولا تعب { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } أي في ذلك الوقت الذي رأى فيه زكريا كرامة الله لمريم دعا ربّه متوسلاً ومتضرعاً { قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } أي أعطني من عندك ولداً صالحاً - وكان شيخاً كبيراً وامرأته عجوزاً وعاقراً - ومعنى طيبة صالحةَ مباركة { إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ } أي مجيبٌ لدعاء من ناداك { فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ } أي ناداه جبريل حال كون زكريا قائماً في الصلاة { أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ } أي يبشرك بغلام اسمه يحيى { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ } أي مصدقاً بعيسى مؤمناً برسالته، وسمي عيسى كلمة الله لأنه خلق بكلمة " كن " من غير أب { وَسَيِّداً } أي يسود قومه ويفوقهم { وَحَصُوراً } أي يحبس نفسه عن الشهوات عفةً وزهداً ولا يقرب النساء مع قدرته على ذلك، وما قاله بعض المفسرين أنه كان عنّيناً فباطل لا يجوز على الأنبياء لأنه نقص وذم والآية وردت مورد المدح والثناء { وَنَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } أي ويكون نبياً من الأنبياء الصالحين قال ابن كثير: وهذه بشارة ثانية بنبوته بعد البشارة بولادته وهي أعلى من الأولى كقوله لأم موسى

السابقالتالي
2 3