الرئيسية - التفاسير


* تفسير صفوة التفاسير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق


{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكِّلِينَ } * { إِن يَنصُرْكُمُ ٱللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ٱلَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ } * { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } * { أَفَمَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَ ٱللَّهِ كَمَن بَآءَ بِسَخَطٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } * { هُمْ دَرَجَـٰتٌ عِندَ ٱللَّهِ وٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } * { لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } * { أَوَلَمَّآ أَصَـٰبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَـٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } * { وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلِيَعْلَمَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } * { وَلِيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوِ ٱدْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } * { ٱلَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ }

المنَاسَبَة: لا تزال الآيات تتحدث عن غزوة أُحد، فقد ذكر تعالى فيما سبق انهزام المسلمين وما أصيبوا به من غمّ واضطراب، وأرشدهم إِلى موطن الداء ووصف لهم الدواء، وفي هذه الآيات الكريمة اشادة بالقيادة الحكيمة، فمع مخالفة بعض الصحابة لأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم فقد وسعهم عليه السلام بخلقه الكريم وقلبه الرحيم، ولم يخاطبهم بالغلظة والشدة وإِنما خاطبهم باللطف واللين، ولذلك اجتمعت القلوب حول دعوته، وتوحّدت تحت قيادته، والآيات تتحدث عن أخلاق النبوة، وعن المنّة العظمى ببعثة الرسول الرحيم والقائد الحكيم وعن بقية الأحداث الهامة في تلك الغزوة.

اللغَة: { فَظّاً } الفظُّ: الغليظ الجافي قال الواحدي هو الغليظ سيئ الخلق قال الشاعر:
أخشى فظاظة عمٍّ أو جفاء أخٍ   وكنتُ أخشى عليها من أذى الكلم
{ غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ } هو الذي لا يتأثر قلبه ولا يرقّ ومن ذلك قول الشاعر:
يُبكَى علينا ولا نبكي على أحدٍ؟   لنحن أغلظُ أكباداً من الإِبل
{ انْفَضُّواْ } تفرقوا وأصل الفضِّ الكسر ومنه قولهم: لا يفضض الله فاك { يَغُلَّ } الغُلول: الخيانة وأصله أخذ الشيء في الخفية يقال: غلّ فلان في الغنيمة أي أخذ شيئاً منها في خفية { بَآءَ } رجع { سَخَطٍ } السخط: الغضب الشديد { مَأْوَاهُ } منزله ومثواه { يُزَكِّيهِمْ } يطهرهم { مَنَّ } المِنَّة: الإِنعام والإِحسان { فَادْرَءُوا } الدرء: الدفع ومنهوَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا ٱلْعَذَابَ } [النور: 8].

سَبَبُ النّزول: فقدت قطيفة حمراء يوم بدر من المغنم فقال بعض الناس لعلّ النبي صلى الله عليه وسلم أخذها فأنزل الله { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ.. } الآية.

التفسِيْر: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ } أي فبسبب رحمةٍ من الله أودعها الله في قلبك يا محمد كنت هيناً ليّن الجانب مع أصحابك مع أنهم خالفوا أمرك وعصوك { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } أي لو كنت جافي الطبع قاسي القلب، تعاملهم بالغلظة والجفا، لتفرقوا عنك ونفروا منك، ولمّا كانت الفظاظة في الكلام نفى الجفاء عن لسانه والقسوة عن قلبه { فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلأَمْرِ } أي فتجاوز عما نالك من أذاهم يا محمد، واطلب لهم من الله المغفرة، وشاورهم في جميع أمورك ليقتدي بك الناس قال الحسن " ما شاور قومٌ قط إلاّ هُدوا لأرشد أمورهم " وكان عليه السلام كثير المشاورة لأصحابه { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ } أي إِذا عقدت قلبك على أمر بعد الاستشارة فاعتمد على الله وفوّض أمرك إِليه { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكِّلِينَ } أي يحب المعتمدين عليه، المفوضين أمورهم إِليه { إِن يَنصُرْكُمُ ٱللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ } أي إِن أراد الله نصركم فلا يمكن لأحدٍ أن يغلبكم { وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ٱلَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ } أي وإِن أراد خذلانكم وترك معونتكم فلا ناصر لكم، فمهما وقع لكم من النصر كيوم بدر أو من الخذلان كيوم أُحد بمشيئته سبحانه فالأمر كله لله، بيده العزة والنصرة والإِذلال والخذلان { وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ } أي وعلى الله وحده فليلجأ وليعتمد المؤمنون { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } أي ما صحَّ ولا استقام شرعاً ولا عقلاً لنبيٍّ من الأنبياء أن يخون في الغنيمة، والنفيُ هنا نفيٌ للشأن وهو أبلغ من نفي الفعل لأنَّ المراد أنه لا يتأتّى ولا يصحُّ أن يُتصوّر فضلاً عن أن يحصل ويقع { وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } أي ومن يخُن من غنائم المسلمين شيئاً يأت حاملاً له على عنقه يوم القيامة فضيحةً له على رءوس الأشهاد { ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } أي تعطى جزاء ما عملت وافياً غير منقوص { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أي تنال جزاءها العادل دون زيادة أو نقص، فلا يزاد في عقاب العاصي، ولا ينقص من ثواب المطيع { أَفَمَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَ ٱللَّهِ كَمَن بَآءَ بِسَخَطٍ مِّنَ ٱللَّهِ } أي لا يستوي من أطاع الله وطلب رضوانه، ومن عصى الله فاستحق سخطه وباء بالخسران { وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } أي مصيره ومرجعه جهنم وبئست النار مستقراً له { هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ ٱللَّهِ } أي متفاوتون في المنازل قال الطبري: هم مختلفو المنازل عند الله، فلمن اتبع رضوان الله الكرامةُ والثواب الجزيل، ولمن باء بسخطٍ من الله المهانةُ والعقاب الأليم { وٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي لا تخفى عليه أعمال العباد وسيجازيهم عليها، ثمَّ ذكّر تعالى المؤمنين بالمنّة العظمى عليهم ببعثة خاتم المرسلين فقال { لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } أي والله لقد أنعم الله على المؤمنين حين أرسل إِليهم رسولاً عربياً من جنسهم، عرفوا أمره وخبروا شأنه، وخصَّ تعالى المؤمنين بالذكر وإِن كان رحمة للعالمين، لأنهم هم المنتفعون ببعثته { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } أي يقرأ عليهم الوحي المنزل { وَيُزَكِّيهِمْ } أي يطهرهم من الذنوب ودنس الأعمال { وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ } أي يعلمهم القرآن المجيد والسنة المطهرة { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } أي وإِنه الحال والشأن كانوا قبل بعثته في ضلال ظاهر، فنقلوا من الظلمات إِلى النور، وصاروا أفضل الأمم { أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ } أي أو حين أصابتكم أيها المؤمنون كارثةٌ يوم أحد فقُتل منكم سبعون { قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا } أي في بدر حيث قتلتم سبعين وأسرتم سبعين { قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَـٰذَا }؟ أي من أين هذا البلاء، ومن أين جاءتنا الهزيمة وقد وعدنا بالنصر، وموضع التقريع قولهم { أَنَّىٰ هَـٰذَا }؟ مع أنهم سبب النكسة والهزيمة { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } أي قل لهم يا محمد: إِن سبب المصيبة منكم أنتم بمعصيتكم أمر الرسول وحرصكم على الغنيمة { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي يفعل ما يشاء لا معقب لحكمه ولا رادّ لِقضائه { وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ } أي وما أصابكم يوم أُحد، يوم التقى جمع المسلمين وجمع المشركين فبقضاء الله وقدره وبإِرادته الأزلية وتقديره الحكيم، ليتميّز المؤمنون عن المنافقين { وَلِيَعْلَمَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي ليعلم أهل الإِيمان الذين صبروا وثبتوا ولم يتزلزلوا { وَلِيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوِ ٱدْفَعُواْ } أي وليعلم أهل النفاق كعبد الله بن أُبي ابن سلول وأصحابه الذين انخذلوا يوم أُحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجعوا وكانوا نحواً من ثلاثمائة رجل فقال لهم المؤمنون: تعالوا قاتلوا المشركين معنا أو ادفعوا بتكثيركم سوادنا { قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ } أي قال المنافقون لو نعلم أنكم تلقون حرباً لقاتلنا معكم، ولكن لا نظن أن يكون قتال { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ } أي بإِظهارهم هذا القول صاروا أقرب إِلى الكفر منهم إِلى الإِيمان { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } أي يظهرون خلاف ما يضمرون { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } أي بما يخفونه من النفاق والشرك { ٱلَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ } أي وليعلم الله أيضاً المنافقين الذين قالوا لإِخوانهم الذين هم مثلهم وقد قعدوا عن القتال { لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا } أي لو أطاعنا المؤمنون وسمعوا نصيحتنا فرجعوا كما رجعنا ما قتلوا هنالك { قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي قل يا محمد لأولئك المنافقين إن كان عدم الخروج ينجي من الموت فادفعوا الموت عن أنفسكم إِن كنتم صادقين في دعواكم، والغرض منه التوبيخ والتبكيت وأن الموت آتٍ إِليكم ولو كنتم في بروج مشيدة.

السابقالتالي
2