المنَاسَبَة: لما بيَّن تعالى ضلال من اتخذ أولياء من دون الله، وضرب المثل ببيت العنكبوت، أمر هنا بالتلطف في دعوة أهل الكتاب إلى الإِيمان، ثم ذكر البراهين القاطعة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وصحة القرآن، وختم السورة الكريمة ببيان المانع من التوحيد وهو اغترار الناس بالحياة الدنيا الفانية، وبيَّن أن المشركين يوحدون الله وقت الشدة، وينسونه وقت الرخاء. اللغَة: { بَغْتَةً } فجأة يقال: بَغَتَه إذا دهمه على حين غفلة { يَغْشَاهُمُ } يجللهم ويغطيهم من فوقهم، والغشاء: الغطاء { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ } بوَّأه: أنزله في المكان على وجه الإِقامة { غُرَفَاً } منازل رفيعة عالية في الجنة { يُؤْفَكُونَ } يُصرفون عن الحق إلى الباطل { يَبْسُطُ } يوسّع { وَيَقْدِرُ } يضيق { مَثْوًى } المكان اليذي يقيم فيه الإِنسان. سَبَبُ النّزول: عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المؤمنين بالهجرة حين آذاهم المشركون فقال لهم: اخرجوا إلى المدينة وهاجروا، ولا تجاوروا الظلمة، قالوا: ليس لنا بها دار ولا عقار، ولا من يطعمنا ولا من يسقينا فنزلت { وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ٱللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ.. } الآية. التفسِير: { وَلاَ تُجَادِلُوۤاْ أَهْلَ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } أي لا تدعو أهل الكتاب إلى الإِسلام وتناقشوهم في أَمر الدين إلا بالطريقة الحسنى كالدعاء إلى الله بآياته، والتنبيه على حججه وبيناته { إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } أي إلا من كان ظالماً، محارباً لكم، مجاهداً في عداوتكم، فجادلوهم بالغلظة والشدة قال الإِمام الفخر: إن المشرك لما جاء بالمنكر الفظيع كان اللائق أن يُجادل بالأخشن، ويُبالغ في توهين شبهه وتهجين مذهبه، وأما أهل الكتاب فإنهم آمنوا بإنزال الكتب وإرسال الرسل إلا الاعتراف بالنبي عليه السلام، فلمقابلة إحسانهم يُجادلون بالأحسن إلا الذين ظلموا منهم بإثبات الولد لله، والقول بثالث ثلاثة فإنهم يُجادلون بالأخشن من تهجين مقالتهم، وتبيين جهالتهم { وَقُولُوۤاْ آمَنَّا بِٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ } أي وقولوا لهم: آمنا بالقرآن الذي أُنزل إلينا وبالتوراة والإِنجيل التي أنزلت إليكم، قال أبو هريرة: " كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإِسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، { وَقُولُوۤاْ آمَنَّا بِٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ } " { وَإِلَـٰهُنَا وَإِلَـٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } أي ربنا وربكم واحد لا شريك له في الألوهية، ونحن له مطيعون، مستسلمون لحكمه وأمره { وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ } أي وكما أنزلنا الكتاب على من قبلك يا محمد أنزلناه عليك { فَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } أي فالذين أعطيناهم الكتاب كعبد الله ابن سلام وأمثاله ممن أسلم من اليهود والنصارى يؤمنون بالقرآن { وَمِنْ هَـٰؤُلاۤءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ } أي ومن أهل مكة من يؤمن بالقرآن كذلك { وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ ٱلْكَافِرونَ } أي وما يكذب بآياتنا وينكرها مع ظهورها وقيام الحجة عليها إلا المتوغلون في الكفر، المصرّون على العناد قال قتادة: وإنما يكون الجحود بعد المعرفة { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } أي وما كنتَ يا محمد تعرف القراءة ولا الكتابة قبل نزول هذا القرآن لأنك أميٌ قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمياً لا يقرأ شيئاً ولا يكتب { إِذاً لاَّرْتَابَ ٱلْمُبْطِلُونَ } أي لو كنت تقرأ أو تكتب إذاً لشك الكفار في القرآن وقالوا؛ لعله التقطه من كتب الأوائل ونسبه إلى الله، والآيةُ احتجاجٌ على أن القرآن من عند الله، لأنه النبي أميّ وجاءهم بهذا الكتاب المعجز، المتضمن لأخبار الأمم السابقة، والأمور الغيبية، وذلك أكبر برهان على صدقه صلى الله عليه وسلم قال ابن كثير: المعنى قد لبثت في قومك يا محمد - من قبل أن تأتي بهذا القرآن - عمراً لا تقرأ كتاباً، ولا تحسن الكتابة، بل كل أحد من قومك يعرف أنك أميٌ لا تقرأ ولا تكتب، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائماً إلى يوم الدين لا يحسن الكتابة، ولا يخط حرفاً ولا سطراً بيده، بل كان له كتَّاب يكتبون له الوحي { بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ } { بَلْ } للإِضراب أي ليس الأمر كما حسب الظالمون والمبطلون بل هو آياتٌ واضحاتُ الإِعجاز، ساطعات الدلالة على أنها من عند الله، محفوظة في صدور العلماء، قال المفسرون: من خصائص القرآن العظيم أنَّ الله حفظه من التبديل والتغيير بطريقين: الأول: الحفظُ في السطور، والثاني: الحفظُ في الصدور، بخلاف غيره من الكتب فإنها مسطّرة لديهم غير محفوظة في صدورهم ولهذا دخلها التحريف، وقد جاء في صفة هذه الأمة " أناجيلُهم في صدروهم " وقال الحسن: أُعطيت هذه الأمة الحفظ، وكان من قبلها لا يقرءون كتابهم إلا نظراً، فإذا أطبقوه لم يحفظ ما فيه إلا النبيّون { وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ ٱلظَّالِمُونَ } أي وما يكذب بها إلا المتجاوزون الحد في الكفر والعناد { وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ } أي وقال كفار مكة: هلاَّ أُنزل على محمد آيات خارقة من ربه تدل على صدقه مثل ناقة صالح، وعصا موسى، ومائدة عيسى!! { قُلْ إِنَّمَا ٱلآيَاتُ عِندَ ٱللَّهِ } أي قل لهم يا محمد: إنما أمر هذه الخوارق والمعجزات لله وليست بيدي، إن شاء أرسلها، وإن شاء منعها، وليس لأحدٍ دخلٌ فيها { وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي وإنما أنا منذر أخوفكم عذاب الله، وليس من شأني أن آتي بالآيات { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ }؟ الاستفهام للتوبيخ أي أولم يكف المشركين من الآيات هذا الكتاب المعجز الذي لا يزال يقرع أسماعهم؟ وكيف يطلبون آيةً والقرآن أعظم الآيات وأوضحها دلالة على صحة نبوتك؟ قال ابن كثير: بيَّن تعالى كثرة جهلهم، وسخافة عقلهم، حيث طلبوا آياتٍ تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم، وقد جاءهم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، الذي هو أعظم من كل معجزة، إذ عجزت الفصحاء والبلغاء عن معارضته، بل عن معارضة سورة منه، أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك هذا الكتاب العظيم وأنت رجلٌ أميٌ لا تقرأ ولا تكتب، وجئتهم بأخبار ما في الصحف الأولى؟ ولهذا قال بعده { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي إن في إنزال هذا القرآن لنعمةً عظيمة على العباد بإنقاذهم من الضلالة، وتذكرة بليغة لقوم غرضهم الإِيمان لا التعنت { قُلْ كَفَىٰ بِٱللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً } أي قل لهم: كفى أن يكون الله جلَّ وعلا شاهداً على صدقي، يشهد لي أني رسولُه { يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي لا تخفى عليه خافية من أمر العباد، فلو كنتُ كاذباً عليه لانتقم مني { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْبَاطِلِ وَكَفَرُواْ بِٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } أي والذين آمنوا بالأوثان وكفروا بالرحمن، أولئك هم الكاملون في الخسران حيث اشتروا الكفر بالإِيمان { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ } أي يستعجلك يا محمد المشركون بالعذاب يقولون