الرئيسية - التفاسير


* تفسير صفوة التفاسير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق


{ الۤـمۤ } * { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } * { وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَاذِبِينَ } * { أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } * { مَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ ٱللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ لآتٍ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } * { وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ } * { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ ٱلَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } * { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي ٱلصَّالِحِينَ } * { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يِقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي ٱللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ ٱلنَّاسِ كَعَذَابِ ٱللَّهِ وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ ٱلْعَالَمِينَ } * { وَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ } * { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } * { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } * { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } * { فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ ٱلسَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } * { وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } * { إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ ٱلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَٱبْتَغُواْ عِندَ ٱللَّهِ ٱلرِّزْقَ وَٱعْبُدُوهُ وَٱشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } * { وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ } * { أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ ٱللَّهُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } * { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِىءُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلآخِرَةَ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } * { يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ } * { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } * { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَلِقَآئِهِ أُوْلَـٰئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلنَّارِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } * { وَقَالَ إِنَّمَا ٱتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } * { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّيۤ إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } * { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ }

اللغَة: { فِتْنَةَ } الفتنة: الابتلاء والاختبار { أَثْقَالَهُمْ } جمع ثقل وهو الحمل الثقيل الذي ينوء به الإِنسان، والمراد بالأثقال هنا الذنوب والأوزار { لَبِثَ } أقام ومكث { إِفْكاً } كذباً وزوراً { تُقْلَبُونَ } تُرجعون وتُردون.

سَبَبُ النّزول: عن سعد بن أبي وقاص قال: " كنت رجلاً باراً بأمي فلما أسلمتُ، قالت: ما هذا الدين الذي أحدثت يا سعد؟ لتدَعن دينك هذا أو لا آكلُ ولا أشربُ حتى أموت فتعيَّر بي فيقال: يا قاتل أمه، قلتُ: لا تفعلي يا أماه، فإِني لا أدع ديني هذا لشيءٍ أبداً، قال: فمكثتْ يوماً وليلةً لا تأكل، فأصبحت قد جُهدت، ثم مكثت يوماً آخر وليلةً لا تأكل، فلما رأيتُ ذلك قلت: تعلمين واللهِ يا أُمَّاه لو كانت لكِ مائةُ نفسٍ فخرجت نفساً نفْساً ما تركتُ ديني هذا لشيءٍ أبداً، فإِن شئت فكلي، وإِن شئتِ فَدعي، فلم رأتْ ذلك أكلت فأنزل الله هذه الآية { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ.. } الآية.

التفسِير: { الۤـمۤ } الحروف المقطعة للتنبيه على إِعجاز القرآن { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ }؟ الهمزة للاستفهام الإِنكاري أي أظنَّ الناسُ أن يُتركوا من غير افتتان لمجرد قولهم باللسان آمنا؟ لا ليس كما ظنوا بل لا بدَّ من امتحانهم ليتميز الصادق من المنافق قال ابن جزي: نزلت في قومٍ من المؤمنين كانوا بمكة مستضعفين، منهم " عمار بن ياسر " وغيره، وكان كفار قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإِسلام، فضاقت صدورهم بذلك فآنسهم الله بهذه الآية ووعظهم وأخبرهم أن ذلك اختبار، ليوطنوا أنفسهم على الصبر على الأذى، والثبات على الإِيمان، وأعلمهم أن تلك سيرته في عباده يسلّط الكفار على المؤمنين ليمحصهم بذلك، ويظهر الصادق في إِيمانه من الكاذب { وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي ولقد اختبرنا وامتحنا من سبقهم بأنواع التكاليف والمصائب والمحن قال البيضاوي: والمعنى أن ذلك سنة قديمة، جارية في الأمم كلها، فلا ينبغي أن يتوقع خلافه { فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَاذِبِينَ } أي فليميزنَ الله بين الصادقين في دعوى الإِيمان، وبين الكاذبين فيه، وعبَّر عن الصادقين بلفظ الفعل { ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ } وعن الكاذبين باسم الفاعل { ٱلْكَاذِبِينَ } للإِشارة إِلى أن الكاذبين وصفهم مستمر وأن الكذب راسخ فيهم بخلاف الصادقين فإِن الفعل يفيد التجدد، قال الإِمام الفخر: إِن اسم الفاعل يدل في كثير من المواضع على ثبوت المصدر ورسوخه فيه، والفعل الماضي لا يدل عليه كما يقال: فلانٌ شرب الخمر، وفلانٌ شاربُ الخمر، فإِنه لا يفهم من صيغة الفعل الثبوتُ والرسوخ { أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا } أي أيظن المجرمون الذين يرتكبون المعاصي والموبقات أنهم يفوتون من عقابنا ويعجزوننا؟ { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي بئس ما يظنون قال الصاوي: والآية انتقال من توبيخ إلى توبيخ أشد، فالأول توبيخ للناس على ظنهم أنهم يفوتون عذاب الله ويفرون منه مع دوامهم على كفرهم { مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ ٱللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ لآتٍ } لما بيَّن تعالى أن العبد لا يترك في الدنيا سُدى، بيَّن هنا أن من اعترف بالآخرة وعمل لها لا يضيع عمله، ولا يخيب أمله والمعنى من كان يرجو ثواب الله فليصبر في الدنيا على المجاهدة في طاعة الله حتى يلقى الله فيجازيه، فإِن لقاء الله قريب الإِتيان، وكلُّ ما هو آتٍ قريب، والآية تسلية للمؤمنين ووعدٌ لهم بالخير في دار النعيم { وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } أي هو تعالى السميع لأقوال العباد، العليم بأحوالهم الظاهرة والباطنة { وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ } أي ومن جاهد نفسه بالصبر على الطاعات، والكف عن الشهوات، فمنفعة جهاده إِنما هي لنفسه { إِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ } أي مستغنٍ عن العباد، لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } أي جمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح { لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } أي لنمحونَّ عنهم سيئاتهم التي سلفت منهم بسبب إِيمانهم وعملهم الصالح { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ ٱلَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي ونجزيهم بأحسن أعمالهم الصالحة وهي الطاعات { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً } أي أمرناه أمراً مؤكداً بالإِحسان إِلى والديه غاية الإِحسان، لأنهما سبب وجوده ولهما عليه غاية الفضل والإِحسان، الوالد بالإِنفاق والوالدة بالإِشفاق قال الصاوي: وإِنما أمر الله الأولاد ببر الوالدين دون العكس، لأن الأولاد جُبلوا على القسوة وعدم طاعة الوالدين، فكلفهم الله بما يخالف طبعهم، والآباء مجبولون على الرحمة والشفقة بالأولاد فوكلهم لما جُبلوا عليه { وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ } أي وإِن بذلا كلَّ ما في وسعهما، وحرصا كلَّ الحرص على أن تكفر بالله وتشرك به شيئاً لا يصح أن يكون إِلهاً ولا يستقيم، فلا تطعهما في ذلك لأنه لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الله { إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي إِليَّ مرجع الخلائق جميعاً، مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، فأجازي كلاً بما عمل، وفيه وعدٌ حسن لمن برَّ والديه واتبع الهدى، ووعيدٌ لمن عقَّ والديه واتبع سبيل الرَّدى { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي ٱلصَّالِحِينَ } أي لندخلنَّهم في زمرة الصالحين في الجنة قال القرطبي: كرَّر تعالى التمثيل بحالة المؤمنين العاملين لتحريك النفوس إلى نيل مراتبهم، وفي { ٱلصَّالِحِينَ } مبالغة أي الذين هم في نهاية الصلاح وأبعد غاياته، ولما ذكر تعالى ما أعده للمؤمنين الخلَّص ذكر حال المنافقين المذبذبين فقال { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يِقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي ٱللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ ٱلنَّاسِ كَعَذَابِ ٱللَّهِ } أي ومن الناس فريقٌ يقولون بألسنتهم آمنا بالله، فإِذا أُوذي أحدهم بسبب إِيمانه ارتد عن الدين وجعل ما يصيبه من أذى الناس سبباً صارفاً له عن الإِيمان كعذاب الله الشديد الذي يصرف الإِنسان عن الكفر قال المفسرون: والتشبيه { كَعَذَابِ ٱللَّهِ } من حيث إِن عذاب الله مانع للمؤمنين من الكفر، فكذلك المنافقون جعلوا أذاهم مانعاً لهم من الإِيمان، وكان مقتضى إِيمانهم أن يصبروا ويتشجعوا، ويروا في العذاب عذوبة، وفي المحنة منحة، فإِن العاقبة للمتقين قال الإِمام الفخر: أقسام المكلفين ثلاثة: مؤمنٌ ظاهر بحسن اعتقاده، وكافرٌ مجاهر بكفره وعناده، ومذبذبٌ بينهما يظهر الإِيمان بلسانه ويضمر الكفر في فؤاده، فلما ذكر تعالى القسمين بقوله { فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَاذِبِينَ } ذكر القسم الثالث هنا { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يِقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ } واللطيفة في الآية أن الله أراد بيان شرف المؤمن الصابر، وخسَّة المنافق الكافر، فقال هناك: أُوذي المؤمن في سبيل الله ليترك سبيله ولم يتركه، وأوذي المنافق الكافر فترك الله بنفسه، وكان يمكنه أن يظهر موافقتهم ويكون قلبه مطمئناً بالإِيمان، ومع هذا لم يفعله بل ترك الله بالكلية { وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ } أي ولئن جاء نصر قريب للمؤمنين، وفتح ومغانم قال أولئك المذبذبون: إِنا كنا معكم ننصركم على أعدائكم، فقاسمونا فيما حصل لكم من الغنائم قال تعالى رداً عليهم { أَوَ لَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ ٱلْعَالَمِينَ }؟ استفهام تقرير أي أوليس الله هو العالم بما انطوت عليه الضمائر من خير وشر، وبما في قلوب الناس من إِيمان ونفاق؟ بلى إِنه بكل شيء عليم، ثم أكد تعالى ذلك بقوله { وَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ } أي وليُظهرنَّ الله لعباده حال المؤمنين وحال المنافقين حتى يتميزوا فيفتضح المنافق، ويظهر شرف المؤمن الصادق قال المفسرون: والمراد { وَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ } إِظهار علمه للناس حتى يصبح معلوماً لديهم، وإِلا فالله عالم بما كان، وما يكون، وما هو كائن لا تخفى عليه خافية، فهو إِذاً علمُ إِظهار وإِبداء، لا علمُ غيبٍ وخفاء بالنسبة للّه تعالى، وقد فسَّر ابن عباس العلم بمعنى الرؤية { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ } أي قال الكفار للمؤمنين اكفروا كما كفرنا، واتَّبعوا ديننا ونحن نحمل عنكم الإِثم والعقاب، إِن كان هناك عقاب قال ابن كثير: كما يقول القائل: افعلْ هذا وخطيئتك في عنقي، فإِن قيل { وَلْنَحْمِلْ } صيغة أمر، فكيف يصح أمر النفس من الشخص؟ فنقول: الصيغةُ أمرٌ والمعنى شرطٌ وجزاء أي إِن اتبعتمونا حملنا خطاياكم { وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَيْءٍ } أي وما هم حاملين شيئاً من خطاياهم، لأنه لا يحمل أحدٌ وزر أحد { إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أي وإِنهم لكاذبون في ذلك، ثم قال تعالى { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } أي وليحملُنَّ أوزارهم وأوزار من أضلوهم دون أن ينقص من أوزار أولئك شيء كما في الحديث

السابقالتالي
2 3 4 5