المنَاسَبَة: لما قصَّ تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم خبر موسى وإِبراهيم أتبعه بذكر قصة نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، وكلُّ ذلك تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يلقاه من قومه، وبيانٌ لسنة الله في عقاب المكذبين. اللغَة: { ٱلْمَشْحُونِ } المملوء يقال: شحنَ السفينةَ أي ملأها بالناس والدواب والطعام { رِيعٍ } الرِّيع: ما ارتفع من الأرض، والرِّيعُ: الطريق { مَصَانِعَ } المراد بها الحصون المشيَّدة وهو قول ابن عباس قال الشاعر:
تركنا ديارهم منهم قِفاراً
وهدَّمنا المصانع والبروجا
{ بَطَشْتُمْ } البطش: السطوةُ والأخذ بالعنف يقال: بطَش يبطِشُ إذا أخذه بشدة وعنف { ٱلْجِبِلَّةَ } الخليقة قال الهروي: الجبلَّة والجِبلُّ: الجمع ذو العدد الكثير من الناس ومنه قوله{ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً } [يس: 62] أي ناساً كثيرين ويقال: جُبل فلانٌ على كذا أي خُلق { كِسَفاً } جمع كِسْفة وهي القطعة من الشيء. التفسِير: { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ ٱلْمُرْسَلِينَ } أي كذَّب قوم نوح رسولهم نوحاً، وإِنما قال { ٱلْمُرْسَلِينَ } لأن من كذَّب رسولاً فقد كذب الرسل { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ } أي أخوهم في النسب لا في الدين لأنه كان منهم قال الزمخشري: وهذا من قول العرب: يا أخا بني تميم يريدون يا واحداً منهم ومنه بيت الحماسة " لا يسألون أخاهم حين يندبهم " { أَلاَ تَتَّقُونَ } أي ألا تخافون عقاب الله في عبادة الأصنام؟ { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } أي إني لكم ناصح، أمينٌ في نصحي لا أخون ولا أكذب { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ } أي خافوا عذاب الله وأطيعوا أمري { وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } أي لا أطلب منكم جزاءً على نصحي لكم { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } أي ما أطلب ثوابي وأجري إلا من الله تعالى { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ } كرره تأكيداً وتنبيهاً على أهمية الأمر الذي دعاهم إليه { قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ لَكَ } أي أنصدّقك يا نوح فيما تقول { وَٱتَّبَعَكَ ٱلأَرْذَلُونَ } أي والحال أن أتباعك هم السفلة والفقراء والضعفاء؟ قال البيضاوي: وهذا من سخافة عقلهم، وقصور رأيهم فقد قصروا الأمر على حطام الدنيا حتى جعلوا اتّباع الفقراء له مانعاً عن اتباعهم وإِيمانهم بدعوة نوح { قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي ليس عليَّ أن أبحث عن خفايا ضمائرهم، وأن أُنقّب عن أعمالهم هل اتبعوني إخلاصاً أو طمعاً؟ قال القرطبي: كأنهم قالوا: إِنما اتبعك هؤلاء الضعفاء طمعاً في العزة والمال فقال في جوابهم: إني لم أقف على باطن أمرهم وإِنما إليَّ ظاهرهم { إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ } أي ما حسابهم وجزاؤهم إلا على الله فإِنه المطّلع على السرائر والضمائر لو تعلمون ذلك { وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي لست بمبعد هؤلاء المؤمنين الضعفاء عني، ولا بطاردهم عن مجلسي قال أبو حيان: وهذا مشعرٌ بأنهم طلبوا منه ذلك كما طلب رؤساء قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرد من آمن من الضعفاء { إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي ما أنا إلا نذير لكم من عذاب الله، أخوفكم بأسه وسطوته فمن أطاعني نجا سواءً كان شريفاً أو وضيعاً، أو جليلاً أو حقيراً { قَالُواْ لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يٰنُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمَرْجُومِينَ } أي لئن لم تنته عن دعوى الرسالة وتقبيح ما نحن عليه لتكوننَّ من المرجومين بالحجارة، خوفوه بالقتل بالحجارة فعند ذلك حصل اليأس لنوحٍ من فلاحهم فدعا عليهم { قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ } أي قال نوح يا ربّ إن قومي كذّبوني ولم يؤمنوا بي { فَٱفْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً } أي فاحكم بيني وبينهم بما تشاء، واقض بيننا بحكمك العادل { وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي أنقذني والمؤمنين معي من مكرهم وكيدهم { فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ } أي فأنجينا نوحاً ومن معه من المؤمنين في السفينة المملوءة بالرجال والنساء والحيوان { ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ ٱلْبَاقِينَ } أي أغرقنا بعد إنجائهم الباقين من قومه { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً } أي لعبرة عظيمة لمن تفكر وتدبَّر { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ } أي وما أكثر الناس بمؤمنين { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } أي وإِن ربك يا محمد لهو الغالب الذي لا يُقهر، الرحيم بالعباد حيث لا يعاجلهم بالعقوبة، ثم شرع تعالى في ذكر قصة " هود " فقال { كَذَّبَتْ عَادٌ ٱلْمُرْسَلِينَ } أي كذبت قبيلة عاد رسولهم هوداً، ومن كذَّب رسولاً فقد كذب جميع المرسلين { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ } أي ألا تخافون عذاب الله وانتقامه في عبادتكم لغيره! { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } أي أمينٌ على الوحي ناصح لكم في الدين { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ } أي فخافوا عذاب الله وأطيعوا أمري { وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } أي لا أطلب منكم على تبليغ الدعوة شيئاً من المال إِنما أطلب أجري من الله، كررت الآيات للتنبيه إلى أنَّ دعوةَ الرسل واحدة { أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ }؟ استفهامٌ إنكاري أي أتبنون بكل موضع مرتفع من الطريق بناءً شامخاً كالعَلَم لمجرد اللهو والعبث؟ قال ابن كثير: الرَّيع المكان المرتفع كانوا يبنون عند الطرق المشهورة بنياناً محكماً هائلاً باهراً لمجرد اللهو واللعب وإِظهار القوة، ولهذا أنكر عليهم نبيُهم عليه السلام ذلك لأنه تضييعٌ للزمان، وإِتعابٌ للأبدان، واشتغالُ بما لا يُجدي في الدنيا ولا في الآخرة { وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ } أي وتتخذون قصوراً مشيَّدة محكمة ترجون الخلود في الدنيا كأنكم لا تموتون؟ { وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } أي وإِذا اعتديتم على أحد فعلتم فعل الجبارين من البطش دون رأفةٍ أو رحمة، وإِنما أنكر عليهم ذلك لأنه صادر عن ظلم عادة الجبابرة المتسلطين قال الفخر: وصفهم بثلاثة أمور: اتخاذ الأبنية العالية وهو يدل على السرف وحب العلو، واتخاذ المصانع - القصور المشيَّدة والحصون - وهو يدل على حب البقاء والخلود، والجبارية وهي تدل على حب التفرد بالعلو، وكلُّ ذلك يشير على أن حبَّ الدنيا قد استولى عليهم بحيث استغرقوا فيه حتى خرجوا عن حد العبودية، وحاموا حول دعاء الربوبية، وحبُّ الدنيا رأسُ كل خطيئه { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ } أي خافوا الله واتركوا هذه الأفعال وأطيعوا أمري، ثم شرع يذكّرهم نعم الله فقال { وَٱتَّقُواْ ٱلَّذِيۤ أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ } أي أنعم عليكم بأنواع النعم والخيرات { أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } أي أعطاكم أصول الخيرات من المواشي، والبنين، والبساتين، والأنهار، وأغدق عليكم النعم فهو الذي يجب أن يُعْبد ويُشْكر ولا يُكفر { إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أي أخشى عليكم إن لم تشكروا هذه النعم وأشركتم وكفرتم عذاب يومٍ هائل تشيب لهوله الولدان.