المنَاسَبَة: لما ذكر إعراض المشركين عن عبادة الرحمن أعقبها بذكر آياته الكونية الدالة على الوحدانية، ثم ختم السورة الكريمة بذكر صفات عباد الرحمن التي استحقوا بها دخول الجنان. اللغَة: { بُرُوجاً } البروج: منازل الكواكب السيارة سميت بالبروج لأنها تشبه القصور العالية وهي للكواكب كالمنازل للسكان وقيل: هي الكواكب العظيمة { غَرَاماً } لازماً دائماً غير مفارق ومنه الغريم لملازمته { ٱلْغُرْفَةَ } الدرجة الرفيعة في الجنة وهي في اللغة العلية، وكل بناءٍ عالٍ فهو غرفة { يَعْبَأُ } يبالي ويهتمُّ قال أبو عبيدة: ما أعبأ به أي وجودُه وعدمه عندي سواء، والعبء في اللغة الثقل { لِزَاماً } ملازماً لكم. التفسِير: { تَبَارَكَ ٱلَّذِي جَعَلَ فِي ٱلسَّمَآءِ بُرُوجاً } أي تمجَّد وتعظَّم الله الذي جعل في السماء تلك الكواكب العِظام المنيرة { وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً } أي وجعل فيها الشمس المتوهجة في النهار، والقمر المضيء بالليل { وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً } أي يخلف كلٌّ منهما الآخر ويتعاقبان، فيأتي النهار بضيائه ثم يعقبه الليل بظلامه { لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ } أي لمن اراد أن يتذكَّر آلاء الله، ويتفكر في بدائع صنعه { أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } أي أراد شكر الله على إِفضاله ونعمائه قال الطبري: جعل الله الليل والنهار يخلف كل واحدٍ منهما الآخر، فمن فاته شيء من الليل أدركه بالنهار، ومن فاته شيء من النهار أدركه بالليل { وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً } الإِضافة للتشريف أي العباد الذين يحبهم الله وهم جديرون بالانتساب إليه هم الذين يمشون على الأرض في لين وسكينة ووقار، لا يضربون بأقدامهم أشراً ولا بطراً، ولا يتبخترون في مشيتهم { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } أي وإذا خاطبهم السفهاء بغلظةٍ وجفاءً قالوا قولاً يسْلَمون فيه من الإِثم قال الحسن: لا يجهلون على أحد، وإِن جُهل عليهم حَلُموا { وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً } أي يُحيْون الليل بالصلاة ساجدين لله على جباههم، أو قائمين على أقدامهم كقوله{ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } [الذاريات: 17] قال الرازي: لما ذكر سيرتهم في النهار ومن وجهين: ترك الإِيذاء، وتحمل الأذى بيَّن هنا سيرتهم في الليالي وهو اشتغالهم بخدمة الخالق { وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ } أي يدعون ربهم أن ينجيهم من عذاب النار، ويبتهلون إليه أن يدفع عنهم عذابها { إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } أي لازماً دائماً غير مفارق { إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } أي بئست جهنم منزلاً ومكان إقامة قال القرطبي: المعنى بئس المستقر وبئس المقام، فهم مع طاعتهم مشفقون خائفون من عذاب الله، وقال الحسن: خشعوا بالنهار وتعبوا بالليل فرَقاً من عذاب جهنم { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ } هذا هو الوصف الخامس من أوصاف عباد الرحمن والمعنى: ليسوا مبذرين في إِنفاقهم في المطاعم والمشارب والملابس، ولا مقصِّرين ومضيّقين بحيث يصبحون بخلاء { وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } أي وكان إنفاقُهم وسطاً معتدلاً بين الإِسراف والتقتير كقوله تعالى