الرئيسية - التفاسير


* تفسير صفوة التفاسير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } * { وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلَٰئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ إِن كُنْتُمْ صَٰدِقِينَ } * { قَالُواْ سُبْحَٰنَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ } * { قَالَ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِيۤ أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ }

المنَاسَبَة: لما امتنَّ تعالى على العباد بنعمة الخلق والإِيجاد وأنه سخر لهم ما في الأرض جميعاً، وأخرجهم من العدم إِلى الوجود، أتبع ذلك ببدء خلقهم، وامتنَّ عليهم بتشريف أبيهم وتكريمه، بجعله خليفة، وإِسكانه دار الكرامة، وإِسجاد الملائكة تعظيماً لشأنه، ولا شك أن الإِحسان إِلى الأصل إِحسان إِلى الفرع، والنعمة على الآباء نعمة على الأبناء، ولهذا ناسب أن يذكّرهم بذلك، لأنه من وجوه النعم التي أنعم بها عليهم.

اللغَة: { إِذْ } ظرف زمان منصوب بفعل محذوف تقديره: اذكر حين أو اذكر وقت، وقد يصرح بالمحذوف كقوله تعالىوَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ } [الأنفال: 26] قال المبرد: إذا جاء " إِذْ " مع مستقبل كان معناه ماضياً نحو قولهوَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ } [الأنفال: 30] معناه إِذْ مكروا، وإِذا جاء " إِذا " مع الماضي كان معناه مستقبلاً كقولهفَإِذَا جَآءَتِ ٱلطَّآمَّةُ } [النازعات: 34] وإِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ } [النصر: 1] أي يجيء. { خَلِيفَةً } الخليفة: من يخلف غيره وينوب منابه، فعيل بمعنى فاعل والتاء للمبالغة، سمي خليفة لأنه مستخلف عن الله عز وجل في إِجراء الأحكام وتنفيذ الأوامر الربانية قال تعالىيٰدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي ٱلأَرْضِ } [ص: 26] الآية { يَسْفِكُ } السفك: الصب والإِراقة ولا يستعمل إِلا في الدم قال في المصباح: وسفك الدم: أراقه وبابه ضرب { نُسَبِّحُ } التسبيح: تنزيه الله وتبرئته عن السوء، وأصله من السَّبْح وهو الجري والذهاب قال تعالىإِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً } [المزمل: 7] فَالمسَبِّح جارٍ في تنزيه الله تعالى { وَنُقَدِّسُ } التقديس: التطهير ومنه الأرض المقدسة، وروح القدس، وضده التنجيس، وتقديس الله معناه: تمجيده وتعظيمه وتطهير ذكره عما لا يليق به وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده " سبُّوحٌ قدُّوس ربُّ الملائكةِ والرُّوح " { أَنْبِئُونِي } أخبروني والنبأ: الخبر الهام ذو الفائدة العظيمة قال تعالىقُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ } [ص: 67] و { تُبْدُونَ } تظهرون { تَكْتُمُونَ } تخفون ومنه كتم العلم أي اخفاؤه.

التفسِيْر: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ } أي اذكر يا محمد حين قال ربك للملائكة واقصص على قومك ذلك { إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } أي خالق في الأرض ومتخذ فيها خليفة يخلفني في تنفيذ أحكامي فيها وهو آدم أو قوماً يخلف بعضهم بعضاً قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل { قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا } أي قالوا على سبيل التعجب والاستعلام: كيف تستخلف هؤلاء، وفيهم من يفسد في الأرض بالمعاصي { وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ } أي يريق الدماء بالبغي والاعتداء!! { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } أي ننزهك عما لا يليق بك متلبسين بحمدك { وَنُقَدِّسُ لَكَ } أي نعظّم أمرك ونطهّر ذكرك مما نسبه إِليك الملحدون { قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي أعلم من المصالح ما هو خفيٌ عليكم، ولي حكمة في خلق الخليقة لا تعلمونها { وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا } أي أسماء المسمّيات كلها قال ابن عباس: علّمه اسم كل شيء حتى القصعة والمغرفة { ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلاَئِكَةِ } أي عرض المسميات على الملائكة وسألهم على سبيل التبكيت { فَقَالَ أَنْبِئُونِي } أي أخبروني { بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ } أي بأسماء هذه المخلوقات التي ترونها { إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي في زعمكم أنكم أحق بالخلافة ممن استخلفته، والحاصل أن الله تعالى أظهر فضل آدم للملائكة بتعليمه ما لم تعلمه الملائكة، وخصّه بالمعرفة التامة دونهم، من معرفة الأسماء والأشياء، والأجناس، واللغات، ولهذا اعترفوا بالعجز والقصور { قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ } أي ننزهك يا ألله عن النقص ونحن لا علم لنا إلا ما علمتنا إِياه { إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَلِيمُ } أي الذي لا تخفى عليه خافية { ٱلْحَكِيمُ } الذي لا يفعل إِلا ما تقتضيه الحكمة { قَالَ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ } أي أعلمهم بالأسماء التي عجزوا عن علمها، واعترفوا بتقاصر هممهم عن بلوغ مرتبتها { فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ } أي أخبرهم بكل الأشياء، وسمَّى كل شيء باسمه، وذكر حكمته التي خلق لها { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِيۤ أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي قال تعالى للملائكة: ألم أنبئكم بأني أعلم ما غاب في السماوات والأرض عنكم { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ } أي ما تظهرون { وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } أي تسرون من دعواكم أن الله لا يخلق خلقاً أفضل منكم.

السابقالتالي
2 3