الرئيسية - التفاسير


* تفسير صفوة التفاسير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَٰسِقِينَ } * { ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَٰقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي ٱلأرْضِ أُولَـۤئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ } * { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَٰتاً فَأَحْيَٰكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } * { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

المنَاسَبَة: لمّا بيّن تعالى بالدليل الساطع، والبرهان القاطع، أن القرآن كلام الله لا يتطرأ إِليه شك، وإِنه كتاب معجز أنزله على خاتم المرسلين، وتحداهم أن يأتوا بمثل سورةٍ من أقصر سوره، ذكر هنا شبهة أوردها الكفار للقدح فيه وهي أنه جاء في القرآن ذكر (النحل، والذباب، والعنكبوت، والنمل) الخ وهذه الأمور لا يليق ذكرها بكلام الفصحاء فضلاً عن كلام ربّ الأرباب، فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة، وردَّ عليهم بأنَّ صغر هذه الأشياء لا يقدح في فصاحة القرآن وإِعجازه، إِذا كان ذكر المثل مشتملاً على حِكَمٍ بالغة.

اللغَة: { لاَ يَسْتَحْى } الحياء: تغير وانكسار يعتري الإِنسان من خوف ما يعاب به ويذم، والمراد به هنا لازمه وهو الترك، قال الزمخشري: أي لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحيي من ذكرها لحقارتها { فَمَا فَوْقَهَا } فما دونها في الصغر { ٱلْفَاسِقِينَ } أصل الفسق في كلام العرب: الخروج عن الشيء، والمنافق فاسق لخروجه عن طاعة ربه، قال الفراء: الفاسق مأخوذ من قولهم فسقت الرطبة من قشرها أي خرجت، ويسمى الفاسق فاسقاً لخروجه عن طاعة الله، وتسمى الفأرة فويسقة لخروجها لأجل المضرة. { يَنقُضُونَ } النقض: فسخ التركيب وإِفساد ما أبرمته من بناءٍ، أو حبلٍ، أو عهد قال تعالىوَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا } [النحل: 92] وقالفَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ } [النساء: 155] أي فبنقضهم الميثاق { عَهْدَ } العهد: المَوْثق الذي يعطيه الإِنسان لغيره ويقال عهد إِليه أي أوصاهٱلْمِيثَاقَ } [الرعد: 20] العهد المؤكد باليمين وهو أبلغ من العهد. { ٱسْتَوَىٰ } الاستواء في الأصل: الاعتدال والاستقامة يقال: استوى العود إِذا قام واعتدل، واستوى إِليه كالسهم إِذا قصده قصداً مستوياً، وقال ثعلب: الاستواء: الإِقبال على الشيء. { فَسَوَّاهُنَّ } خلقهن وأتقنهن وقيل معناه: صيّرهن.

سَبَبُ النّزول: لما ذكر الله تعالى الذباب والعنكبوت في كتابه، وضرب للمشركين به المثل ضحكت اليهود وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله، وما أراد بذكر هذه الأشياء الخسيسة؟ فأنزل الله الآية.

التفسِير: يقول تعالى في الرد على مزاعم اليهود والمنافقين { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا } أي إِن الله لا يستنكف ولا يمتنع عن أن يضرب أيَّ مثلٍ كان، بأي شيءٍ كان، صغيراً كان أو كبيراً { بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } أي سواء كان هذا المثل بالبعوضة أو بما هو دونها في الحقارة والصغر، فكما لا يستنكف عن خلقها، كذلك لا يستنكف عن ضرب المثل بها { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ } أما المؤمنون فيعلمون أن الله حق، لا يقول غير الحق، وأن هذا المثل من عند الله { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً }؟ وأما الذين كفروا فيتعجبون ويقولون: ماذا أراد الله من ضرب الأمثال بمثل هذه الأشياء الحقيرة؟ قال تعالى في الرد عليهم { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } أي يضل بهذا المثل كثيراً من الكافرين لكفرهم به، ويهدي به كثيراً من المؤمنين لتصديقهم به، فيزيد أولئك ضلالة، وهؤلاء هدىً { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَاسِقِينَ } أي ما يضل بهذا المثل أو بهذا القرآن إِلا الخارجين عن طاعة الله، الجاحدين بآياته، ثم عدّد تعالى أوصاف هؤلاء الفاسقين فقال { ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ } أي ينقضون ما عهده إِليهم في الكتب السماوية، من الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم من بعد توكيده عليهم، أو ينقضون كل عهد وميثاق من الإِيمان بالله، والتصديق بالرسل، والعمل بالشرائع { وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ } من صلة الأرحام والقرابات، واللفظ عام في كل قطيعة لا يرضاها الله كقطع الصلة بين الأنبياء، وقطع الأرحام، وترك موالاة المؤمنين { وَيُفْسِدُونَ فِي ٱلأرْضِ } بالمعاصي، والفتن، والمنع عن الإِيمان، وإِثارة الشبهات حول القرآن { أُولَـۤئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } أي أولئك المذكورون، الموصوفون بتلك الأوصاف القبيحة هم الخاسرون لأنهم استبدلوا الضلالة بالهدى، والعذاب بالمغفرة، فصاروا إِلى النار المؤبدة { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ } استفهام للتوبيخ والإِنكار والمعنى كيف تجحدون الخالق، وتنكرون الصانع { وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً } أي وقد كنتم في العدم نُطفاً في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات { فَأَحْيَاكُمْ } أي أخرجكم إِلى الدنيا { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } عند انقضاء الآجال { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } بالبعث من القبور { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } للحساب والجزاء يوم النشور.

السابقالتالي
2 3