الرئيسية - التفاسير


* تفسير صفوة التفاسير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق


{ يَٰـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } * { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَٰشاً وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } * { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَٱدْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَٰدِقِينَ } * { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَٰفِرِينَ } * { وَبَشِّرِ ٱلَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَٰرُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـٰذَا ٱلَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَٰبِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ }

المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى الأصناف الثلاثة " المؤمنين، والكافرين، والمنافقين " وذكر ما تميزوا به من سعادة أو شقاوة، أو إِيمان أو نفاق، وضرب الأمثال ووضَّح طرق الضلال أعقبه هنا بذكر الأدلة والبراهين على وحدانية ربِّ العالمين، وعَرَّف الناس بنعمه ليشكروه عليها، وأقبل عليهم بالخطاب { يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ } وهو خطاب لجميع الفئات ممتناً عليهم بما خلق ورزق، وأبرز لهم " معجزة القرآن " بأنصع بيان وأوضح برهان، ليقتلع من القلوب جذور الشك والارتياب.

اللغَة: { خَلَقَكُمْ } الخلق: الإِيجاد والاختراع بلا مثال، وأصله في اللغة التقدير يقال: خَلَق النعل إِذا قدَّرها وسوَّاها بالمقياس، وخلق الأديمَ للسقاء إِذا قدَّره قال الحجاج " ما خلقتُ إِلا فريتُ، ولا وعدتُ إِلا وفيتُ " أي ما قدرت شيئاً إِلا أمضيته، ولا وعدت بشيء إِلا وفيت به. { فِرَاشاً } الفراش: الوطاءُ والمهاد الذي يقعد عليه الإِنسان وينام { بِنَآءً } البناء: ما يُبنى من قبةٍ أو خباءٍ أو بيت { أَندَاداً } جمع نِدّ وهو الكفء والمثيل والنظير ومنه قول علماء التوحيد " ليس للهِ نِدٌّ ولا ضِدّ " قال حسان:
أتهجوه ولستَ له بندٍّ   فشرُّكما لخيركما الفِداء
وقال الزمخشري: " النِدُّ: المثل ولا يقال إلا للمخالف المناوئ قال جرير: أتيماً تجعلون إلىَّ نداً؟ { وَقُودُهَا } الوَقُود: الحطب الذي توقد به النار قال القرطبي: الوَقود بالفتح الحطب، وبالضم مصدر بمعنى التوقد { أُعِدَّتْ } هيئت، وأعددنا هيأنا قال البيضاوي: { أُعِدَّتْ } هُيّئت لهم وجُعلت عُدَّة لعذابهم { وَبَشِّرِ } البشارة: الخبر السارُّ الذي يتغير به بشرة الوجه من السرور، وإِذا استعمل في الشر فهو تهكم مثلفَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [الانشقاق: 24] { أَزْوَاجٌ } جمع زوج ويطلق على الذكر والأنثىٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ } [البقرة: 35] فالمرأة زوج الرجل، والرجل زوج المرأة قال الأصمعي: لا تكاد العرب تقول زوجة { خَالِدُونَ } باقون دائمون.

التفسِير: يقول تعالى منبهاً العبادَ إِلى دلائل القدرة والوحدانية { يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } أي يا معشر بني آدم اذكروا نِعَم الله الجليلة عليكم، واعبدوا الله ربكم الذي ربَّاكم وأنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئاً، اعبدوه بتوحيده، وشكره، وطاعته { ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } أي الذي أوجدكم بقدرته من العدم، وخلق من قبلكم من الأمم { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أي لتكونوا في زمرة المتقين، الفائزين بالهدى والفلاح قال البيضاوي: لما عدَّد تعالى فِرَق المكلفين، أقبل عليهم بالخطاب على سبيل الالتفات، هزاً للسامع، وتنشيطاً له، واهتماماً بأمر العبادة وتفخيماً لشأنها، وإِنما كثر النداء في القرآن بـ { يَاأَيُّهَا } لاستقلاله بأوجهٍ من التأكيد، وكلُّ ما نادى الله له عباده من حيث إِنها أمور عظام من حقها أن يتفطنوا لها، ويقبلوا بقلوبهم عليها وأكثرهم عنها غافلون حقيقٌ بأن يُنادى له بالآكد الأبلغ، ثمَّ عدَّد تعالى نِعَمه عليهم فقال { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً } أي جعلها مهاداً وقراراً، تستقرون عليها وتفترشونها كالبساط المفروش مع كرويتها، وإِلا ما أمكنكم العيش والاستقرار عليها قال البيضاوي: جعلها مهيأة لأن يقعدوا ويناموا عليها كالفراش المبسوط، وذلك لا يستدعي كونها مسطَّحة لأن كروية شكلها مع عظم حجمها لا يأبى الافتراش عليها { وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً } أي سقفاً للأرض مرفوعاً فوقها كهيئة القبة { وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً } أي مطراً عذباً فراتاً أنزله بقدرته من السحاب { فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ } أي فأخرج بذلك المطر أنواع الثمار والفواكه والخضار غذاءً لكم { فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي فلا تتخذوا معه شركاء من الأصنام والبشر تشركونهم مع الله في العبادة، وأنتم تعلمون أنها لا تَخْلُق شيئاً ولا تَرْزق، وأَنَّ الله هو الخالق الرازق وحده، ذو القوة المتين قال ابن كثير: شرع تعالى في بيان وحدانية ألوهيته بأنه هو المنعم على عبيده بإِخراجهم من العدم، وإِسباغه عليهم النِّعَم، والمرادُ بالسَّماء هنا السحاب، فهو تعالى الذي أنزل المطر من السحاب في وقته عند احتياجهم إِليه، فأخرج لهم به أنواع الزروع والثمار رزقاً لهم ولأنعامهم، ومضمونه أنه الخالق الرازق مالكُ الدار وساكنيها ورازقهم، فبهذا يستحق أن يُعبد وحده ولا يُشرك به غيره.

السابقالتالي
2 3