المنَاسَبَة: لما أخبر تعالى عن حال الأشقياء الذين كفروا نعمة الله، وطعنوا في القرآن فزعموا أنه أساطير الأولين، وبيَّن ما يكونون عليه في الآخرة من الفضيحة والذل والهوان، ذكر هنا ما أعده للمتقين من وجوه التكريم في دار النعيم، ليظهر الفارق بين حال أهل السعادة وحال أهل الشقاوة، وبين الأبرار والفجار على طريقة القرأن في المقارنة بين الفريقين. اللغَة: { ٱلزُّبُرِ } الكتب السماوية جمع زبُور من زبرت الكتاب إِذا كتبته { يَخْسِفَ } خسَف المكانُ خسوفاً إِذا ذهب وغاب في الأرض { يَتَفَيَّؤُاْ } يميل من جانب إِلى جانب ومنه قيل للظل فيءٌ لأنه يفيء أي يرجع من جهة إِلى أخرى { دَاخِرُونَ } صاغرون ذليلون، والدخور الصغار والذل قال ذو الرمَّة:
فلم يبْقَ إِلا داخِرٌ في مُخَيَّس
ومنجَحِرٌ في غيرِ أرضكَ في جُحْر
التفسِير: { وَقِيلَ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ } أي قيل للفريق الثاني وهم أهل التقوى والإِيمان { مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً } أي ماذا أنزل ربكم على رسوله؟ قالوا أنزل خيراً قال المفسرون: هذا كان في أيام الموسم يأتي الرجل مكة فيسأل المشركين عن محمد وأمره فيقولون: إِنه ساحر وكاهن وكذاب، فيأتي المؤمنين ويسألهم عن محمد وعن ما أنزل الله عليه فيقولون: أنزل الله عليه الخير والهدى والقرآن، قال تعالى بياناً لجزائهم الكريم { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هٰذِهِ ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةٌ } أي لهؤلاء المحسنين مكافأة في الدنيا بإِحسانهم { وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ } أي وما ينالونه في الآخرة من ثواب الجنة خيرٌ وأعظم من دار الدنيا لفنائها وبقاء الآخرة { وَلَنِعْمَ دَارُ ٱلْمُتَّقِينَ } أي ولنعم دار المتقين دار الآخرة وهي { جَنَّاتُ عَدْنٍ } أي جناتُ إِقامة { يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } أي يدخلون تلك الجنان التي تجري من بين أشجارها وقصورها الأنهار { لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ } أي لهم في تلك الجنات ما يشتهون بدون كدٍّ ولا تعب، ولا انقطاعٍ ولا نَصب { كَذَلِكَ يَجْزِي ٱللَّهُ ٱلْمُتَّقِينَ } أي مثل هذا الجزاء الكريم يجزي الله عباده المتقين لمحارمه، المتمسكين بأوامره { ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ طَيِّبِينَ } أي هم الذين تقبض الملائكةُ أرواحهم حال كونهم أبراراً، قد تطهروا من دنس الشرك والمعاصي، طيبةً نفوسهم بلقاء الله { يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ } أي تسلم عليهم الملائكة وتبشرهم بالجنة قال ابن عباس: الملائكة يأتونهم بالسلام من قِبل الله، ويخبرونهم أنهم من أصحاب اليمين { ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي هنيئاً لكم الجنة بما قدمتم في الدنيا من صالح الأعمال { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ ٱلْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ } عاد الكلام إِلى تقريع المشركين وتوبيخهم على تماديهم في الباطل واغترارهم بالدنيا والمعنى ما ينتظر هؤلاء إِلا أحد أمرين: إِما نزول الموت بهم، أو حلول العذاب العاجل، أو ليس في مصير المكذبين قبلهم عبرةٌ وغناء؟ { كَذَلِكَ فَعَلَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي كذلك صنع من قبلهم من المجرمين حتى حلَّ بهم العذاب { وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلـٰكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أي ما ظلمهم الله بتعذيبهم وإِهلاكهم ولكنْ ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي { فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ } أي أصابهم عقوبات كفرهم وجزاء أعمالهم الخبيثة { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي أحاط ونزل بهم جزاء استهزائهم وهو العذاب الأليم في دركات الجحيم { وَقَالَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } أي قال أهل الكفر والإِشراك وهم كفار قريش { لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلاۤ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ } أي لو شاء الله ما عبدنا الأصنام لا نحن ولا آباؤنا، ولا حرمنا ما حرمنا من البحائر والسوائب وغيرها، قالوا هذا على سبيل الاستهزاء لا على سبيل الاعتقاد، وغرضُهم أن إِشراكهم وتحريمهم لبعض الذبائح والأطعمة واقع بمشيئة الله، فهو راضٍ به وهو حقٌّ وصواب { كَذٰلِكَ فَعَلَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي مثل هذا التكذيب والاستهزاء فعل من قبلهم من المجرمين، واحتجوا مثل احتجاجهم الباطل، وتناسوا كسبهم لكفرهم ومعاصيهم، وأن كل ذلك كان بمحض اختيارهم بعد أن أنذرتهم رسلهم عذاب النار وغضب الجبار { فَهَلْ عَلَى ٱلرُّسُلِ إِلاَّ ٱلْبَلاغُ ٱلْمُبِينُ } أي ليس على الرسل إِلا التبليغ، وأمَّا أمر الهداية والإِيمان فهو إِلى الله جلَّ وعلا { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّاغُوتَ } أي أرسلنا الرسل إِلى جميع الخلق بأن اعبدوا الله ووحّدوه، واتركوا كل معبود دون الله كالشيطان والكاهن والصنم، وكل من دعا إِلى الضلال { فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى ٱللَّهُ } أي فمنهم من أرشده الله إِلى عبادته ودينه فآمن { وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ ٱلضَّلالَةُ } أي ومنهم من وجبت له الشقاوة والضلالة فكفر، أعْلمَ تعالى أنه أرسل الرسل لتبليغ الناس دعوة الله فمنهم من استجاب فهداه الله، ومنهم من كفر فأضلَّه الله { فَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ } أي سيروا يا معشر قريش في أكناف الأرض ثم انظروا ماذا حلَّ بالأمم المكذبين لعلكم تعتبرون! { إِن تَحْرِصْ عَلَىٰ هُدَاهُمْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ } الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أي إِن تحرص يا محمد على هداية هؤلاء الكفار فاعلم أنه تعالى لا يخلق الهداية جبراً وقسراً فيمن يخلق فيه الضلالة بسوء اختياره { مَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } أي ليس لهم من ينقذهم من عذابه تعالى { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ ٱللَّهُ مَن يَمُوتُ } أي حلف المشركون جاهدين في أيمانهم مبالغين في تغليظ اليمين بأن الله لا يبعث من يموت، استبعدوا البعث ورأوه أمراً عسيراً بعد البِلى وتفرق الأشلاء والذرات، قال تعالى رداً عليهم { بَلَىٰ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً } أي بلى ليبعثنَّهم، وعد بذلك وعداً قاطعاً لا بدَّ منه { وَلـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلْنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } أي ولكنَّ أكثرهم لا يعلمون قدرة الله فينكرون البعث والنشور { لِيُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ } أي سيبعثهم ليكشف ضلالهم في إنكارهم البعث، وليظهر لهم الحق فيما اختلفوا فيه، وليحقق العدل وهو التمييز بين المطيع والعاصي، وبين المحق والمبطل، وبين الظالم والمظلوم { وَلِيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ } أي وليعلم الجاحدون للبعث، والمكذبون لوعد الله الحق أنهم كانوا كاذبين فيما يقولون { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } أي لا يحتاج الأمر إلى كبير جهد وعناء فإِنا نقول للشيء كنْ فيكون قال المفسرون: هذا تقريبٌ للأذهان، والحقيقةُ أنه تعالى لو أراد شيئاً لكان بغير احتياج إِلى لفظ { كُنْ } { وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي ٱللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } أي تركوا الأوطان والأهل والقرابة في شأن الله وابتغاء رضوانه من بعد ما عُذِّبُوا في الله قال القرطبي: هم صهيب وبلال وخبّاب وعمّار، عذّبهم أهل مكة حتى قالوا لهم ما أرادوا، فلما خلّوهم هاجروا إِلى المدينة { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً } أي لنسكننهم داراً حسنة خيراً مما فقدوا قال ابن عباس: بوأهم الله المدينة فجعلها لهم دار هجرة { وَلأَجْرُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } أي ثواب الآخر أعظم وأشرف وأكبر لو كان الناس يعلمون { ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي هم الذين صبروا على الشدائد والمكاره، فهجروا الأوطان، وفارقوا الإِخوان، واعتمدوا على الله وحده يبتغون أجره ومثوبته { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ } أي وما أرسلنا من قبلك يا محمد إِلى الأمم الماضية إِلا بشراً نوحي إِليهم كما أوحينا إِليك قال المفسرون: أنكر مشركو قريش نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً، فهلاَّ بعث إِلينا ملكاً فنزلت { فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } أي اسألوا يا معشر قريش العلماء بالتوراة والإِنجيل يخبرونكم أن جميع الأنبياء كانوا بشراً إِن كنتم لا تعلمون ذلك { بِٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلزُّبُرِ } أي أرسلناهم بالحجج والبراهين الساطعة الدالة على صدقهم وبالزُبر أي الكتب المقدسة { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ } أي القرآن المذكّر الموقظ للقلوب الغافلة { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } أي لتعرّف الناس الأحكام، والحلال والحرام { وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } أي ولعلهم يتفكرون في هذا القرآن فيتعظون { أَفَأَمِنَ ٱلَّذِينَ مَكَرُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ ٱللَّهُ بِهِمُ ٱلأَرْضَ } أي هل أمن هؤلاء الكفار الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم واحتالوا لقتله في دار الندوة، هل أمنوا أن يخسف الله بهم الأرض كما فعل بقارون؟ { أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } أي يأتيهم العذاب بغتةً في حال أمنهم واستقرارهم، من حيث لا يخطر ببالهم ومن جهةٍ لا يعلمون بها { أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ } أي يهلكهم في أثناء أسفارهم للتجارة واشتغالهم بالبيع والشراء فإِنهم على أي حال لا يعجزون الله { أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰ تَخَوُّفٍ } أي يهلكهم الله حال كونهم خائفين مترقبين لنزول العذاب قال ابن كثير: فإِنه يكون أبلغ وأشد فإِن حصول ما يتوقع مع الخوف شديدٌ { فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } أي حيث لم يعاجلكم بالعقوبة { أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ } أي أولم يعتبر هؤلاء الكافرون ويروا آثار قدرة الله وأنه ما من شيء من الجبال والأشجار والأحجار ومن سائر ما خلق الله { يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَٱلْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلَّهِ } أي تميل ظلالها من جانب إِلى جانب ساجدة للهِ سجود خضوعٍ لمشيئته تعالى وانقياد، لا تخرج عن إِرادته ومشيئته { وَهُمْ دَاخِرُونَ } أي خاضعون صاغرون فكل هذه الأشياء منقادة لقدرة الله وتدبيره فكيف يتعالى ويتكبر على طاعته أولئك الكافرون؟ { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } أي له تعالى وحده يخضع وينقاد جميع المخلوقات بما فيهم الملائكة فهم لا يستكبرون عن عبادته { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } أي يخافون جلال الله وعظمته، ويمتثلون أوامره على الدوام.