اللغَة: { نُّطْفَةٍ } النطفة الماء المهين الذي يتكون منه الإِنسان، مِن نطَف إذا قطر { دِفْءٌ } الدفء: ما يستدفئ به الإِنسان من البرد { تُرِيحُونَ } الرَّواح: رجوع المواشي بالعشي من المرعى { تَسْرَحُونَ } السَّراح: الخروج بها صباحاً إلى المرعى { أَثْقَالَكُمْ } الأثقال: الأمتعة جمع ثقل سميت أثقالاً لأنها ثقيلة الحمل { جَآئِرٌ } مائل عن الحق { تُسِيمُونَ } أسام الماشية تركها ترعى، وسامت هي إذا رعت حيث شاءت فهي سائمة { ذَرَأَ } خلق وأبدع { مَوَاخِرَ } أصل المخْر شقُّ الماء عن يمين وشمال يقال: مخرت السفينةُ إِذا جرت تشق الماء مع صوت { تَمِيدَ } تضطرب. سَبَبُ النّزول: قال ابن عباس: لما نزل قوله تعالى{ ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ } [القمر: 1] قال الكفار بعضهم لبعض: إنَّ محمداً يزعم أن القيامة قد اقتربت فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى ننظر، فلما امتدت الأيام قالوا يا محمد: ما نرى شيئاً مما تُخَوِّفنا به فأنزل الله تعالى { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ... } الآية. التفسِير: { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } أي قرب قيام الساعة فلا تستعجلوا العذاب الذي أوعدكم به محمد، وإِنما أتى بصيغة الماضي لتحقق وقوع الأمر وقربه، قال الرازي: لما كان واجب الوقوع لا محالة عبّر عنه بالماضي كما يقال للمستغيث: جاءك الغوثُ فلا تجزع { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي تنزَّه الله عما يصفه به الظالمون، وتقدس عن إشراكهم به غيره من الأنداد والأوثان { يُنَزِّلُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ } أي يُنزّل الملائكة بالوحي والنبوة بإِرادته وأمره { عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } أي على الأنبياء والمرسلين، وسمَّى الوحي روحاً لأنه تحيا به القلوب كما تحيا بالأرواح الأبدان { أَنْ أَنْذِرُوۤاْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱتَّقُونِ } أي بأن أنذروا أهل الكفر أنه لا معبود إلا الله فخافوا عذابي وانتقامي، ثم ذكر تعالى البراهين الدالة على وحدانيته وقدرته فقال { خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ } أي خلقهما بالحق الثابت، والحكمة الفائقة، لا عبثاً ولا جُزافاً { تَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي تمجَّد وتقدَّس عن الشريك والنظير { خَلَقَ ٱلإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ } أي خلق هذا الجنس البشري من نطفةٍ مهينة ضعيفة هي المنيُّ { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } أي فإِذا به بعد تكامله بشراً مخاصمٌ لخالقه، واضح الخصومة، يكابر ويعاند، وقد خُلق ليكون عبداً لا ضداً قال ابن الجوزي: لقد خُلق من نطفة وهو مع ذلك يخاصم وينكر البعث، أفلا يستدل بأوله على آخره، وبأن من قدر على إِيجاده أولاً قادرٌ على إِعادته ثانياً؟ { وَٱلأَنْعَامَ خَلَقَهَا } أي وخلق الأنعام لمصالحكم وهي الإِبل والبقر والغنم { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ } أي لكم فيها ما تستدفئون به من البرد مما تلبسون وتفترشون من الأصواف والأوبار { وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } أي ولكم فيها منافع عديدة من النسل والدر وركوب الظهر، ومن لحومها تأكلون وهو من أعظم المنافع لكم { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ } أي ولكم في هذه الأنعام والمواشي زينةٌ وجمالٌ حين رجوعها عشياً من المرعى، وحين غُدوّها صباحاً لترعى، جمال الاستمتاع بمنظرها صحيحةً سمينةً فارهة { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ ٱلأَنفُسِ } أي وتحمل أحمالكم الثقيلة وأمتعتكم التي تعجزون عن حملها إلى بلدٍ بعيد لم تكونوا لتصلوا إليه إلا بجهدٍ ومشقة { إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } أي إنَّ ربكم أيها الناس الذي سخَّر لكم هذه الأنعام لعظيمُ الرأفة والرحمة بكم { وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } أي وخلق الخيل والبغال والحمير للحمل والركوب وهي كذلك زينة وجمال { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي ويخلق في المستقبل ما لا تعلمونه الآن كوسائل النقل الحديث: القاطرات، والسيارات، والطائرات النفاثة وغيرها مما يجدُّ به الزمان وهو من تعليم الله للإِنسان { وَعَلَىٰ ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ } أي وعلى الله جل وعلا بيانُ الطريق المستقيم، الموصلِ لمن يسلكه إلى جنات النعيم { وَمِنْهَا جَآئِرٌ } أي ومن هذه السبيل طريقٌ مائلٌ عن الحق منحرفٌ عنه، لا يوصل سالكه إلى الله وهو طريق الضلال، كاليهودية والنصرانية والمجوسية { وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } أي لو شاء أن يهديكم إلى الإِيمان لهداكم جميعاً ولكنه تعالى اقتضت حكمته أن يدع للإِنسان حرية الاختيار