الرئيسية - التفاسير


* تفسير صفوة التفاسير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق


{ وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىۤ إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّيۤ أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ ٱلسِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا ٱلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } * { قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ } * { قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ ٱلْمَلِكِ وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } * { قَالُواْ تَٱللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ } * { قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ } * { قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلظَّالِمِينَ } * { فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ ٱسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ كَذٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } * { قَالُوۤاْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ } * { قَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } * { قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّـآ إِذاً لَّظَالِمُونَ } * { فَلَمَّا ٱسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ ٱللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ ٱلأَرْضَ حَتَّىٰ يَأْذَنَ لِيۤ أَبِيۤ أَوْ يَحْكُمَ ٱللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَاكِمِينَ } * { ٱرْجِعُوۤاْ إِلَىٰ أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يٰأَبَانَا إِنَّ ٱبْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ } * { وَسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ ٱلَّتِي كُنَّا فِيهَا وَٱلْعِيْرَ ٱلَّتِيۤ أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } * { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ } * { وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَٰأَسَفَىٰ عَلَى يُوسُفَ وَٱبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ ٱلْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } * { قَالُواْ تَاللهِ تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ ٱلْهَالِكِينَ } * { قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } * { يٰبَنِيَّ ٱذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْكَافِرُونَ } * { فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا ٱلضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا ٱلْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ ٱللَّهَ يَجْزِي ٱلْمُتَصَدِّقِينَ } * { قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ } * { قَالُوۤاْ أَءِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـٰذَا أَخِي قَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَآ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ } * { قَالُواْ تَٱللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ ٱللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ } * { قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ يَغْفِرُ ٱللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ } * { ٱذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ }

المنَاسَبَة: تتحدث الآيات عن مجيء إخوة يوسف للمرة الثانية إلى مصر ومعهم " بنيامين " الأخ الشقيق ليوسف، وما كان من شأنه حين ظهر الصواع في رحله، فاحتجزه يوسف عنده بحكم شريعة يعقوب، ثم ما كان من تمام المحنة على يعقوب عليه السلام بفقد ولديه حتى ذهب الحزن ببصره.

اللغَة. { تَبْتَئِسْ } تحزن { ٱلْعِيرُ } الإِبل التي عليها الأحمال ثم كثر الاستعمال حتى قيل لكل قافلة عيرٌ { صُوَاعَ } الصُواع: الصاع الذي يكال به يُذكَّر ويؤنَّث وهو السقاية { زَعِيمٌ } كفيل { سَوَّلَتْ } زيَّنت وسهَّلت { كَظِيمٌ } ممتلئ من الحزن يكتمه ولا يبديه { تَفْتَؤُاْ } لا تفتأ ولا تزال من أخوات كان الناقصة { حَرَضاً } الحَرَض: المَرَض الذي يُشْفي على الهلاك قال الشاعر:
سَرَى همِّي فأَمْرضني   وقِدْماً زَادَنِي مَرَضاً
كذاك الحُبُّ قبلَ اليَو   مِ ممّا يُورِثُ الحَرَضا
وأصل الحَرَض الفساد في الجسم أو العقل { بَثِّي } البثُّ: أشد الغمّ والهمّ { فَتَحَسَّسُواْ } التحسُّسُ: طلب الشيء بالحواس، والتعرُّفُ عليه مع الاستقصاء الدقيق ويستعمل في الخير كما أن التجسُّس يستعمل في الشر، وقيل يستعمل في الخير والشر { لاَ تَثْرِيبَ } التثريبُ: التأنيب والتوبيخ.

التفسِير: { وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ } أي وحين دخل أولاد يعقوب على يوسف { آوَىۤ إِلَيْهِ أَخَاهُ } أي ضمَّ إليه أخاه الشقيق بنيامين { قَالَ إِنِّيۤ أَنَاْ أَخُوكَ } أي أنا أخوك يوسف، أخبره بذلك واستكتمه { فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي لا تحزنْ بما فعلوا بنا فيما مضى فإن الله قد أحسن إلينا وجمعنا بخير قال المفسرون: لما دخل إخوة يوسف عليه أكرمهم وأحسن ضيافتهم ثم أنزل كل اثنين في بيت وبقي " بنيامين " وحيداً فقال: هذا لا ثاني له فيكون معي، فبات يوسف يضمه إليه ويعانقه، وقال له: أنا أخوك يوسف فلا تحزن بما صنعوا، ثم أعلمه أنه سيحتال لإِبقائه عنده وأمره أن يكتم الخبر { فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ } أي ولمّا قضى حاجتهم وحمَّل إبلهم بالطعام والميرة { جَعَلَ ٱلسِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ } أي أمر يوسف بأن تُجعل السقاية - وهي صاعٌ من ذهب مرصَّعٌ بالجواهر - في متاع أخيه بنيامين { ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ } أي نادى منادٍ { أَيَّتُهَا ٱلْعِيرُ } أي يا أصحاب الإِبل ويا أيها الركب المسافرون { إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } أي أنتم قوم سارقون، وإنما استحل أن يرميهم بالسرقة لما في ذلك من المصلحة من إمساك أخيه { قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ }؟ قال المفسرون: لما وصل المنادون إليهم قالوا: ألم نكرمكم ونحسن ضيافتكم؟ ونوفّ إليكم الكيل؟ ونفعل بكم ما لم نفعل بغيركم؟ قالوا: بلى وما ذاك؟ قالوا: فقدنا سقاية الملك ولا نتّهم عليها غيركم فذلك قوله تعالى: { قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ } أي التفتوا إليهم وسألوهم ماذا ضاع منكم وماذا فُقد؟ وفي قولهم { مَّاذَا تَفْقِدُونَ } بدل " ماذا سرَقْنا " إرشادٌ لهم إلى مراعاة حسن الأدب، وعدم المجازفة بنسبة البريئين إلى تهمة السرقة، ولهذا التزموا الأدب معهم فأجابوهم { قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ ٱلْمَلِكِ } أي ضاع منا مكيال الملِك المُرصَّع بالجواهر { وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ } أي ولمن جاءنا بالمكيال وردَّه إلينا حِمْلُ بعيرٍ من الطعام كجائزة له { وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } أي أنا كفيلٌ وضامنٌ بذلك { قَالُواْ تَٱللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي ٱلأَرْضِ } قسمٌ فيه معنى التعجب أي قالوا متعجبين: والله لقد علمتم أيها القوم ما جئنا بقصد أن نفسد في أرضكم { وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ } أي ولسنا ممن يُوصف بالسرقة قطُّ لأننا أولاد أنبياء ولا نفعل مثل هذا الفعل القبيح قال البيضاوي: استَشْهدوا بعلمهم على براءة أنفسهم لما عرفوا منهم من فرط أمانتهم، كردّ البضاعة التي جُعلت في رحالهم، وككمِّ أفواه الدواب لئلا تتناول زرعاً أو طعاماً لأحد { قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ } أي ما عقوبة السارق في شريعتكم إن كنتم كاذبين في ادعاء البراءة { قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ } أي جزاء السارق الذي يوجد الصاع في متاعه أن يُسترقَّ ويصبح مملوكاً لمن سَرَق منه { كَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلظَّالِمِينَ } أي كذلك نجازي من تعدَّى حدود الله بالسرقة وأمثالها، وهذا القول منهم هو الحكم في شريعة يعقوب وقد نسخ بقطع الأيدي في الشريعة الإِسلامية { فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ } أي بدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء أخيه بنيامين قال المفسرون: هذا من تمام الحيلة ودفع التهمة فإنهم لما ادعوا البراءة قال لهم: لا بدَّ من تفتيش أوعيتكم واحداً واحداً فانطلقوا بهم إلى يوسف فبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء " بنيامين " قال قتادة: ذُكر لنا أنه كان لا يفتح متاعاً ولا ينظر وعاءً إلا استغفر الله مما قذفهم به، حتى بقي أخوه - وكان أصغرَ القوم فقال: ما أظنُّ هذا أخذ شيئاً فقالوا: والله لا نتركُك حتى تنظر في رَحله فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا، فلما فتحوا متاعه وجدوا الصواع فيه فذلك قوله تعالى { ثُمَّ ٱسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ } أي استخرج الصواع من متاع أخيه بنيامين، فلما أخرجها منه نكَّس الإِخوةُ رءوسَهم من الحياء، وأقبلوا عليه يلومونه ويقولون له فضحتنا وسوَّدت وجوهنا يا ابن راحيل { كَذٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ } أي كذلك صنعنا ودبرنا ليوسف وألهمناه الحيلة ليستبقي أخاه عنده { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلْمَلِكِ } أي ما كان ليوسف أن يأخذ أخاه في دين ملك مصر، لأن جزاء السارق عنده أن يُضرب ويُغرَّم ضعفَ ما سَرَق { إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } أي إلا بمشيئته تعالى وإذنه، وقد دلّت الآية على أن تلك الحيلة كانت بتعليم الله وإلهامه له { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ } أي نرفع بالعلم منازل من نشاء من عبادنا كما رفعنا يوسف { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } أي فوق كل عالمٍ من هو أعلم منه حتى ينتهي إلى ذي العلم البالغ وهو ربُّ العالمين قال الحسن: ليس عالمٌ إلا فوقه عالم حتى ينتهي العلم إلى الله وقال ابن عباس: الله العليم الخبير فوق كل عالم { قَالُوۤاْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ } أي إن سرق فقد سرق أخوه الشقيق من قبله يعنون يوسف، تنصّلوا من السرقة ورموا بها يوسف وأخاه { فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ } أي أخفى تلك القولة في نفسه وكتمها ولم يُظهرها لإِخوته تلطفاً معهم { قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً } أي أنتم شرٌ منزلةًً حيث سرقتم أخاكم من أبيكم ثم طفقتم تفترون على البريء، ولم يواجههم بهذا الكلام وإنما قاله في نفسه { وَٱللَّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ } أي أعلم بما تتقوّلوا وتفترون { قَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً } استرحامٌ واستعطافٌ أي قالوا مستعطفين يا أيها السيد المبجَّل إنَّ أباه شيخ كبير في السِّن لا يكاد يستطيع فراقه { فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ } أي خذْ بدله واحداً منا فلسنا عنده بمنزلته من المحبة والشفقة { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } أي أتممْ إحسانك علينا فقد عودتنا الجميل والإِحسان { قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ } أي نعوذ بالله من أن نأخذ أحداً بجرم غيره { إِنَّـآ إِذاً لَّظَالِمُونَ } أي نكون ظالمين إن فعلنا ذلك قال الألوسي: والتعبير بقوله { مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ } بدل " من سَرَقَ " لتحقيق الحق والاحتراز عن الكذب { فَلَمَّا ٱسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً } أي ولما يئسوا من إجابة طلبهم يأساً تاماً، وعرفوا أن لا جدوى من الرجاء، اعتزلوا جانباً عن الناس يتناجون ويتشاورون { قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ ٱللَّهِ } أي قال أكبرهم سناً وهو " روبيل " أليس قد أعطيتم أباكم عهداً وثيقاً بردِّ أخيكم؟ { وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ } أي ومن قبل هذا ألا تذكرون تفريطكم في يوسف؟ فكيف ترجعون إليه الآن؟ { فَلَنْ أَبْرَحَ ٱلأَرْضَ حَتَّىٰ يَأْذَنَ لِيۤ أَبِيۤ } أي فلن أفارق أرض مصر حتى يسمح لي أبي بالخروج منها { أَوْ يَحْكُمَ ٱللَّهُ لِي } أي يحكم لي بخلاص أخي { وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَاكِمِينَ } أي وهو سبحانه أعدل الحاكمين لأنه لا يحكم إلا بالعدل والحق { ٱرْجِعُوۤاْ إِلَىٰ أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يٰأَبَانَا إِنَّ ٱبْنَكَ سَرَقَ } أي ارجعوا إلى أبيكم فأخبروه بحقيقة ما جرى وقولوا له إن ابنك بنيامين سَرَق { وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا } أي ولسنا نشهد إلا بما تيقنا وعلمنا فقد رأينا الصاع في رَحْله { وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ } أي ما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الميثاق { وَسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ ٱلَّتِي كُنَّا فِيهَا } أي واسأل أهل مصر عن حقيقة ما حدث قال البيضاوي: أي أرسلْ إلى أهلها واسألهم عن القصة { وَٱلّعِيْرَ ٱلَّتِيۤ أَقْبَلْنَا فِيهَا } أي واسأل أيضاً القافلة التي جئنا معهم وهم قوم من كنعان كانوا بصحبتهم في هذه السفرة { وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } أي صادقون فيما أخبرناك من أمره { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً } أي زيَّنتْ وسهَّلت لكم أنفسكم أمراً ومكيدةً فنفذتموها، اتهمهم بالتآمر على " بنيامين " لما سبق منهم في أمر يوسف { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } أي لا أجد سوى الصبر محتسباً أجري عند الله { عَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً } أي عسى أن يجمع الله شملي بهم، ويقرّ عيني برؤيتهم جميعاً { إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ } أي العالم بحالي الحكيم في تدبيره وتصريفه { وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ } أي أعرض عن أولاده كراهة لما سمع منهم { وَقَالَ يَٰأَسَفَىٰ عَلَى يُوسُفَ } أي يا لهفي ويا حسرتي وحزني على يوسف { وَٱبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ ٱلْحُزْنِ } أي فقد بصره وعشي من شدة البكاء حزناً على ولديه { فَهُوَ كَظِيمٌ } أي مملوء القلب كمداً وغيظاً ولكنه يكتم ذلك في نفسه، وهو مغموم ومكروب لتلك الداهية الدهياء قال أبو السعود: وإنما تأسف على يوسف مع أن الحادث مصيبة أخويه لأن ذكر يوسف كان آخذاً بمجامع قلبه لا ينساه ولأنه كان واثقاً بحياتهما طامعاً في إيابهما وأما يوسف فلم يكن في شأنه ما يحرك سلسلة رجائه سوى رحمة الله وفضله وقال الرازي: الحزن الجديد يقوّي الحزن القديم الكامن في النفس، والأسى يبعث الأسى ويثير الأحزان قال الشاعر:

السابقالتالي
2 3 4