اللغَة: { ٱلْمُبِينِ } الظاهر الجلي { ٱلْقَصَصِ } إتباعُ الخبر بعضُه بعضاً وأصلُه في اللغة المتابعة{ وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ } [القصص: 11] أي اتبعي أثَره والمراد بالقَصَص الأخبار التي قصها علينا الله في كتابه العزيز { الرؤيا } خاصة بالمنام وأما باليقضة فهي بالتاء الرؤية قال الألوسي: مصدر رأى الحلمية الرؤيا ومصدر البصرية الرؤية ولهذا خُطّىء المتنبي في قوله " ورؤياكَ أحلى في العيون من الغَمْض " { يَجْتَبِيكَ } الاجتباء: الاصطفاء والاختيار وأصله من جبيتُ الشيء أي حصَّلته { عُصْبَةٌ } جماعة قال الفراء: ما زاد على العشرة، والعصبةُ والعصابة العشرة فصاعداً { ٱطْرَحُوهُ } الطرح: رمي الشيء وإلقاؤه { غَيَٰبَتِ ٱلْجُبِّ } قعره وغوره سمي به لغيبته عن عين الناظر { يَرْتَعْ } يتسع في أكل ما لذَّ وطاب قال الراغب: الرتع حقيقته في أكل البهائم ويستعار للإِنسان إذا أريد به الأكل الكثير قالت الخنساء:
ترتَعُ ما رتَعَتْ حتَّى إذا ادكرتْ
فإِنَّما هيَ إقبالٌ وإدبار
{ ٱلسَّيَّارَةِ } المسافرين { سَوَّلَتْ } زيَّنت { وَارِدَهُمْ } الوارد الذي يرد الماء ليستقي للقوم. سَبَبُ النّزول: روي أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف وما حصل له مع إخوته من أولاد يعقوب فنزلت السورة. التفسِير: { الۤر } إشارة إلى الإِعجاز، فمن هذه الحروف وأمثالها تتألف آيات الكتاب المعجز { تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } أي تلك الآيات التي أنزلت إليك يا محمد هي آيات الكتاب المعجز في بيانه، الساطع في حججه وبراهينه، الواضح في معانيه، الذي لا تشتبه حقائقه، ولا تلتبس دقائقُه { إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } أي أنزلناه بلغة العرب كتاباً عربياً مؤلفاً من هذه الأحرف العربية { لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي لكي تعقلوا وتدركوا أن الذي يصنع من الكلمات العادية هذا الكتاب المعجز ليس بشراً، وإنما هو إله قدير، وهذا الكلام وحيٌ منزل من رب العالمين { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ } أي نحن نحدثك يا محمد ونروي لك أخبار الأمم السابقة، بأصدق كلام، وأحسن بيان { بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ } أي بإيحاءتنا إليك هذا القرآن المعجز { وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلْغَافِلِينَ } أي وإنَّ الحال والشأن أنك كنتَ من قبل أن نوحي إليك هذا القرآن لمن الغافلين عن هذه القصة، لم تخطر ببالك، ولم تقرعْ سمعك، لأنك أميٌّ لا تقرأ ولا تكتب { إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يٰأَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً } من هنا بدايةُ القصة، أي اذكر حين قال يوسفُ لأبيه يعقوب يا أبي إني رأيت في المنام هذه الرؤيا العجيبة، رأيت أحد عشر كوكباً من كواكب السماء خرّت ساجدةً لي { وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } أي ورأيت في المنام الشمس والقمر ساجدةً لي مع الكواكب قال ابن عباس: كانت الرؤيا فيهم وحياً قال المفسرون: الكواكب الأحد عشر كانت إخوته، والشمس والقمر أبواه، وكان سنه إذ ذاك اثنتي عشرة سنة، وبين هذه الرؤيا واجتماعه بأبيه وإخوته في مصر أربعون سنة { قَالَ يٰبُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ } أي قال له يعقوب: لا تخبرْ بهذه الرؤيا إخوتك { فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً } أي فيحتالوا لإِهلاكك حيلةً عظيمة لا تقدر على ردّها { إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } أي ظاهر العداوة قال أبو حيان: فهم يعقوب من رؤيا يوسف أن الله تعالى يبلّغه مبلغاً من الحكمة، ويصطفيه للنبوة، وينعم عليه بشرف الدارين، فخاف عليه من حسد إخوته فنهاه أن يقصَّ رؤياه عليهم { وَكَذٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ } أي وكما أراك مثل هذه الرؤيا العظيمة كذلك يختارك ربك للنبوة { وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ } أي يعلمك تفسير الرؤيا المناميَّة { وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ آلِ يَعْقُوبَ } أي يتمم فضله وإنعامه عليك وعلى ذرية أبيك يعقوب { كَمَآ أَتَمَّهَآ عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ } أي كما أكمل النعمة من قبل ذلك على جدك إبراهيم وجدك إسحاق بالرسالة والاصطفاء { إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي عليمٌ بمن هو أهلٌ للفضل، حكيم في تدبيره لخلقه { لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ } أي لقد كان في خبر يوسف وإخوته الأحد عشر عبرٌ وعظاتٌ للسائلين عن أخبارهم { إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا } هذه هي المحنة الأولى ليوسف عليه السلام أي حين قالوا: والله ليوسف وأخوه " بنيامين " أحبُّ منَّا عند أبينا، أرادوا أن زيادة محبته لهما أمر ثابتٌ لا شبهة فيه، وإنما قالوا { وَأَخُوهُ } وهم جميعاً إخوة لأن أمهما كانت واحدة { وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } أي والحال نحن جماعة ذوو عدد، نقدر على النفع والضر، بخلاف الصغيرين { إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي إنه في خطأٍ وخروجٍ عن الصواب بيّن واضح، لإِيثاره يوسف وأخاه علينا بالمحبة قال القرطبي: لم يريدوا ضلال الدين إذ لو أرادوه لكفروا، وإنما أرادوا أنه في خطأٍ بيِّن في إيثار اثنين على عشرة { ٱقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ ٱطْرَحُوهُ أَرْضاً } أي أُقتلوا يوسف أو ألقوه في أرض بعيدة مجهولة { يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ } أي فعند ذلك يخلصْ ويصفو لكم حبُّ أبيكم، فيُقْبل عليكم قال الرازي: المعنى إن يوسف شغله عنا وصرف وجهه إليه، فإذا فقده أقبل علينا بالمحبة والميل { وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ } أي وتتوبوا من بعد هذا الذنب وتصبحوا قوماً صالحين { قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلْجُبِّ } أي قال لهم أخوهم " يهوذا " وهو أكبر ولد يعقوب: لا تقتلوا يوسف بل ألقوه في قعر الجب وغوره { يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ ٱلسَّيَّارَةِ } أي يأخذه بعض المارَّة من المسافرين { إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ } أي إن كان لا بدَّ من الخلاص منه فاكتفوا بذلك، وكان رأيه فيه أهون شراً من رأي غيره { قَالُواْ يَٰأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَىٰ يُوسُفَ } المعنى أيُّ شيء حدث لك حتى لا تأمنا على أخينا يوسف، ونحن جميعاً أبناؤك؟ { وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ } أي ونحن نشفق عليه ونريد له الخير قال المفسرون: لما أحكموا العزمْ ذكروا هذا الكلام وأظهروا عند أبيهم أنهم في غاية المحبة ليوسف، وفي غاية الشفقة عليه، ليستنزلوه عن رأيه في تخوفه منهم وكأنهم قالوا: لِمَ تخافنا عليه ونحن نحبه ونريد الخير به!! { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } أي أرسله معنا غداً إلى البادية، يتسع في أكل ما لذَّ وطاب ويلهو ويلعب بالاستباق وغيره { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } أي ونحن نحفظه من كل سوء ومكروه، أكّدوا كلامهم بإنَّ واللام وهم كاذبون { قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِيۤ أَن تَذْهَبُواْ بِهِ } أي قال لهم يعقوب: إنه ليؤلمني فراقُه لقلة صبري عنه { وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ ٱلذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ } أي وأخاف أن يفترسه الذئب في حال غفلتكم عنه، وكأنه لقنهم الحجة قال الزمخشري: إعتذر إليهم بشيئين: أحدهما: أن ذهابهم به ومفارقته إيّاه مما يحزنه لأنه كان لا يصبر عنه ساعة، والثاني: خوفه عليه من الذئب إذا غفلوا عنه برعيهم ولعبهم { قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ } اللام للقسم أي والله لئن أكله الذئب ونحن جماعة أقوياء أشداء إنا لمستحقون أن يُدعى علينا بالخسارة والدمار { فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ } في الكلام محذوف أي فأرسله معهم فلما أخذوه وابتعدوا به عن أبيه { وَأَجْمَعُوۤاْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلْجُبِّ } أي عزموا واتفقوا على إِلقائه في غور الجب { وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَـٰذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أي أوحينا إلى يوسف لتخبرنَّ إخوتك بفعلهم هذا الذي فعلوه بك وهم لا يشعرون في ذلك الوقت أنك يوسف، قال الرازي: وفائدة هذا الوحي تأنيسُه، وتسكينُ نفسه، وإزالةُ الغمّ والوحشةِ عن قلبه، بأنه سيحصل له الخلاص من هذه المحنة { وَجَآءُوۤا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ } أي رجعوا إلى أبيهم وقت العشاء ليلاً وهم يبكون، روي أنه لما سمع يعقوب بكاءهم فزع، وقال: ما لكم يا بَنيَّ، وأين يوسف؟ { قَالُواْ يَٰأَبَانَآ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ } أي نتسابق في العَدْو، أو في الرمي { وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ } أي تركنا يوسف عند ثيابنا وحوائجنا ليحفظها فجاء الذئب فافترسه { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } أي لست بمصدّق لنا في هذه المقالة ولو كنا في الواقع صادقين، فكيف وأنت تتهمنا وغير واثق بقولنا؟ وهذا القول منهم يدل على الارتياب، وكما قيل: يكاد المريبُ يقول خذوني { وَجَآءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } أي جاءوا على ثوبه بدمٍ كاذب، وُصِفَ بالمصدر مبالغةً كأنه نفسُ الكذب وعينُه قال ابن عباس: ذبحوا شاة ولطخوا بدمها القميص فلما جاءوا يعقوب قال: كذبتم لو أكله الذئب لخرقَ القميص وروي أنه قال: " ما أحلم هذا الذئب أكل ابني ولم يشقَّ قميصه "؟! { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً } أي زيَّنت لكم أنفسكم أمراً في يوسف وليس كما زعمتم أن الذئب أكله { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } أي أمري صبرٌ جميل لا شكوى فيه { وَٱللَّهُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ } أي وهو سبحانه عوني على تحمل ما تصفون من الكذب { وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ } أي قوم مسافرون مروا بذلك الطريق قال ابن عباس: جاء قوم يسيرون من مدين إلى مصر فأخطئوا الطريق فانطلقوا يهيمون حتى هبطوا على الأرض التي فيها جب يوسف، وكان الجب في قفرة بعيدة عن العمران { فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ } أي بعثوا من يستقي لهم الماء { فَأَدْلَىٰ دَلْوَهُ } أي أرسل دلوه في البئر قال المفسرون: لما أدلى الواردُ دلوه وكان يوسف في ناحيةٍ من قعر البئر تعلَّق بالحبل فخرج فلما رأى حسنه وجماله نادى { قَالَ يٰبُشْرَىٰ هَـٰذَا غُلاَمٌ } قاله على سبيل السرور والفرح لتبشير نفسه وجماعته قال أبو السعود: كأنه نادى البشرى وقال تعاليْ فهذا أوانك حيث فاز بنعمة جليلة { وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً } أي أخفوا أمره عن الناس ليبيعوه في أرض مصر متاعاً كالبضاعة، والضمير يعود على الوارد وجماعته { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي لا يخفى عليه سبحانه أسرارهم، وما عزموا عليه في أمر يوسف { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ } هذه هي المحنة الثانية في حياة يوسف الصدّيق وهي محنة الاسترقاق أي باعه أولئك المارة الذين استخرجوه من البئر بثمنٍ قليل منقوص هو عشرون درهماً كما قال ابن عباس { وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ ٱلزَّاهِدِينَ } أي وكانوا في يوسف من الزاهدين الذين لا يرغبون فيه لأنهم التقطوه وخافوا أن يكون عبداً آبقاً فينتزعه سيّده من أيديهم، ولذلك باعوه بأبخس الأثمان { وَقَالَ ٱلَّذِي ٱشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ } أي وقال الذي اشتراه من مدينة مصر لزوجته أكرمي إقامته عندنا قال ابن عباس: كان اسم الذي اشتراه " قطفير " وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر " عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً } أي عسى أن يكفينا بعض المهمات إذا بلغ أو نتبناه حيث لم يكن يولد لهما ولد { وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ } أي وكما نجيناه من الجب جعلناه متمكناً في أرض مصر يعيش فيها بعز وأمان { وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ } أي نوفقه لتعبير بعض المنامات { وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ } أي لا يعجزه تعالى شيء { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } أي لا يعلمون لطائف صنعه وخفايا فضله { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ } أي بلغ منتهى شدته وقوته وهو ثلاثون سنة { آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً } أي أعطيناه حكمةً وفقهاً في الدين { وَكَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ } أي المحسنين في أعمالهم.