الرئيسية - التفاسير


* تفسير تيسير التفسير/ اطفيش (ت 1332 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } * { قَالَ رَبِّ ٱجْعَلْ لِّيۤ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَٱذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِبْكَارِ }

{ قَالَ رَبِّ } لم يخاطب الملك المبشر له إعظاما لله عز وجل بإلغاء الوسائط { أَنَّى } كيف أو من أين { يَكُون لِى غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِى الْكِبَرُ } تسع وتسعون سنة، أو اثنتان وتسعون سنة، أو خمس وثمانون، أو خمس وسبعون، أو سبعون أو ستون، وعن ابن عباس رضى الله عنهما مائة وعشرون { وَامْرَأَتِى عَاقِرٌ } وكبيرة السن، ثمان وتسعون، وأصل العقر القطع فاعل للنسب كلإبن، وذلك استبعاد بالنسبة إلى العادة مع إيمانه بقدرة الله على ذلك، واستعظام وتعجب أو استفهام حقيقى، يا رب أتردنى وإياها إلى الشباب وتزيل عقمها أم تبقينا على حالنا، وتزيل عقمهما، أم ترزقنى الولد من إمرأة شابة، وقيل، استفهم الولد بالتبنى أم من الصلب، وفيه، أنه سأل من الصلب، فلعله ذهل لعظم الأمر، وهذا كله يتصور مع دعائه الله فى الولد لا منافيه لما مر، وأما ما قيل، إنه دعا فيه قبل بشارته بأربعين عاما أو ستين، فقال: أنى يكون لى الخ فبعيد جدا ولا سيما مع ظاهر التعقيب فى قوله عز وجل: فنادته الخ وأجابه الله عز وجل بأنه يبقيهما على حالهما من الشيخوخة ويولدهما كما هو المراد فى قوله تعالى { قَالَ } جبريل، أو الله، وهو أنسب بقوله، قال: رب أنى يكون لى غلام، بل يتعين { كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآء } أى الأمر كذلك، أى يخلق الله منكما غلاماً وأنت شيخ فان، وزوجك عجوز عاقر، واحتج على ذلك بقوله الله يفعل ما يشاء، لا يعجزه شىء، أو يخلقه منكما وأنتما كذلك بحالكما، أو شأن الله كذلك، فبينه بقوله: يفعل ما يشاء، أو يفعل ما يشاء مثل ذلك، قيل: كان بين البشارة وولادة يحيى زمان مديد، لأن سؤال الولد والبشارة فى صغر مريم، ووضعه بعد بلوغها ثلاث عشرة سنة، هى زمان حملها بعيسى، وقيل: حملت عيسى بنت عشر سنين، ولما تاقت نفسه للولد المبشر به قال ما ذكر عنه فى قوله تعالى:

{ قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّى ءَايَةً } علامة على حملة لأزيد شكراً، وأفرح، فقوله: أنى يكون لى الخ بمعنى أتلد مع بقاء شيخوختنا، أم بالرد إلى الشاب، وأيضاً من استبعد الشىء يدهش بحصوله، وبقول: من أين وكيف هو، وأيضاً بشر بيحيى ولم يعلم أمن صلبه أو بالتبنى، وايضاً من يرغب فى شىء يلتذ بتكرير الإجابة إليه، أو نسى الإجابة لطول مدتها على ما مر، أو قال له الشيطان عند سماع البشارة، إن هذا الصوت من الشيطان، ومراده أن يريه آية فلا يكون من الشيطان، فلهذه الأوجه ساغ أن يقول، أنى يكون الخ، والوحى لا يلتبس بكلام الشيطان ولو فى مصالح الدنيا والولد { قَالَ ءَايتُكَ } الآية التى تطلب على حملة { أَلاّ تُكَلِّمَ النّاسَ } لا تقدر أن تكلمهم، قهرا من الله، ولو أردت تكليمهم، وهو أنسب، لكون آية وأوفق لما فى مريم، كما روى ابن جرير وابن ابى حاتم أنه ربا لسانه حتى ملأفاه، واحترز بالناس عند ذكر الله، فإنه ينطق لسانه به، يبعد أن عدم التكلم كناية عن الصوم، وكانوا إذا صاموا لم يتكلموا، ويبعد أن خرس لسانه عقوبة، إذ طلب الآية بعد تبشير الملائكة من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين، وهو مردود { ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ } بلياليها، كما قال ثلاث ليال سويا؛ ينطلق فيهن لسانك بالذكر والشكر مقتصرا عليهما قضاء لحق نعمة رزق الحمل، وأحسن الجواب ما أخذ منه وجهه كما هنا، فإنه لما طلب الآية للشكر قيل له، آيتك أن يحبس لسانك إلا عن الشكر، وأيضا لما سأل آية لأجل الشكر أجيب بأنه لا يقدر إلا على الشكر، فلا يقدر على كلام الدنيا، وليس فى قوله تعالى، { رب اجعل لى آية } ما يشعر بأن طلبها للشكر، بل يشعر به المقام، لأنه لما أزيل الاستبعاد ولم يبق لطلب الآية إلا القيام بالشكر { إلاّ رَمْزاً } إشارة بيد أو اجب أو عين أو رأس أو تحريك الشفتين، أو كتابة على الأرض، أو إشارة بالمسبحة، أو صوت خفى، ويقال، الإشارة باليد والوحى بالرأس، والصحيح أن تسمية ذلك كلاما مجاز، وإن أريد بتكليم الناس عموم الإفصاح عما فى القلب، ولو بلا لفظ كان استثناء متصلا، ولا يلزم أن يرجع كل منقطع إلى متصل بالتأويل، فلا يبقى منقطع، فانظر، كم تجد من منقطع لا يقبل التأويل بالاتصال البتة، وكم من منقطع لا يقبله إلا بتكلف، بخلاف ما هنا فإنه صحيح بلا تكلف { وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً } فى هذه الأيام الثلاثة التى أحبس فها لسانك إلا عن الذكر شكرا لهذه النعمة، أو مطلقا، وقيل أيام الحمل لتعود بركة الذكر على الجنين، وفى الآية عطف الإنشاء الفعلى على الإخبار الإسمى، ووجه ذلك أن الجملة الأولى بمنزلة الفعلية الأمرية، أى اسكت وأنت قادر على الكلام، واذكر ربك، لكن هذه على أن السكون على اختيار، أو يقدر، ارتقب ذلك، واذكر أو اشكر واذكر، وكثيرا مفعول مطلق أى ذكرا كثيرا، لا ظرف، أى زمانا كثيرا، لأنه قد ذكر أن الزمان ثلاىثة أيام، ومعلوم أن الذكر فيها لا فى زمان كثير، ولا كثرة ذكر إلا باعتبار اذكر ربك فى أكثر ساعات الأيام الثلاثة { وَسَبِّحْ } صل كثيرا ما لم تحرم الصلاة بقرب الغروب { بِالعَشِىِّ } مفرد، وقيل، المفرد عشية { وَالأبْكَارِ } كثيراً، أو استمر عليها وحين تجوز الصلاة، ما لم تحرم بقرب الزوال، مصدر أبكر، نائب عن الزمان، كأنه قيل وقت الإبكار، كأنه قيل، صل إبكارا، بكسر الهمزة، كجئت طلوع الشمس، وقرىء بقتح الهمزة جمع بكر بفتح الباء والكاف، كسحر وأسحار، أو جمع بكرة، بضم وإسكان شذوذا، وإن أريد بالتسبيح مطلق التسبيح ولو بلا صلاة فهو يسبح ولو قرب الزوال والغروب، فيكون المراد بالعشى والإبكار عموم الأوقات قدر الطاقة، ولو كان العشى من الزوال، أو من العصر، أو من المغرب، أو صار ذهاب صدر الليل، والبكرة أو النهار.