الرئيسية - التفاسير


* تفسير تيسير التفسير/ اطفيش (ت 1332 هـ) مصنف و مدقق


{ رَّبَّنَآ إِنَّيۤ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِىۤ إِلَيْهِمْ وَٱرْزُقْهُمْ مِّنَ ٱلثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ }

{ رَبَّنا إِنّى أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِى } قال هنا ربنا ولم يقل رب؛ لأَن المدعو له هنا أكثر وكذا المدعو به هنا التوحيد وإِقامة الصلاة والرزق، لأَنه إِنما يقيم الصلاة الموحد لا المشرك، والمدعو له هناك خصوص بينه وبنى بنيه الحاضرين أو المؤمنين، والمدعو به هناك مجانبة الأصنام، ويقدر مفعول أَى أَسكنت ذرية من ذريتى أو بعضاً من ذريتى مع سريتى هاجر، وذلك البعض إسماعيل وذريته، لا أَولاد إسحاق وأَولاد مدين ولا إسحاق ومدين، فإِن محلهما الشام ومدين وإِسكان إسماعيل إسكان لذريته بعد لأنهم فى ضمن إسماعيل وفى صلبه ولو حدثوا بعد، ويمكن أن يكون هذا الدعاءُ بعد وجود بعض أولاد إسماعيل وهو قيدار ولم يلد إلا إياه فصح التعبير بالماضى، لم يدع إبراهيم بالتنجية من نار نمروذ حين رآهم مشتغلين بها ولا حين ألقى إليها، وسأله جبريل: هل لك حاجة أو قال له: ادع الله فقال: قد علم حالى مع شدة، ودعا للإسلام لقوة رغبته فى الدين، فما زال مترقيا فى أطوار الكمال { بِوَادٍ } فى واد { غَيْرِ ذِى زَرْعِ } هو وادى مكة لأنه لا ينبت لكثرة حجارة أَرضه { عِنْدَ بَيْتِك الْمُحَرَّمِ } المعظم الممنوع من الخراب الذى لا تحل إهانته ولم يستول عليه الطوفان، بل أعتقه الله منه ومن كل جبار، وكان من آدم أَو من الملائكة فكان يسمى عتيقاً لقدمه أَو لنجاته من التلف ولو اندرس، وبعد اندراسه سماه بيتاً باعتبار ما كان عليه، أَو باعتبار ما سيكون لأَنه بناه بعد هذا الدعاءِ؛ لأَنه أَسكن إبنه إسماعيل مع أمه هاجر قبل بناءِ الكعبة، ويجوز أَن يكون هذا الدعاءُ بعد ما شب إسماعيل بعد بنائِهما الكعبة، بل ذلك قولان مرويان، ولا بد أَن الله أَبان رسم البيت، وكذا فى كونه محرما مع أنه اندرس { رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاة } عند بيتك المحرم، هذا دعاءٌ كما مر وهو من أمر الغائِب، أَمرهم ودعا الله أن يوفقهم إِقامة الصلاة، ويجوز أَن تكون اللام تعليلية متعلقة بأَسكنت، أَى أَسكنتهم فى واد لا ماءَ فيه ولا ثمار ولا نبات لإِقامة الصلاة عند البيت، وكرر النداءَ ووسطه فى دعائِه لأَن مقصوده بالذات إقامة الصلاة عند البيت، والحرم كله عند البيت، ذكر أَن الوادى غير ذى زرع فعلم أَنه لم يسكنه للزرع بل للعبادة المدلول عليها بذكر البيت المرحم والتى هى أَفضل العبادات، وهى إِقامة الصلاة فكأَنه قال: ما أَسكنته إِلا لها، ولا يلزم التفسير بهذا الحصر، اللهم إلا إضافيا إلى الزرع فإنه قصد أيضاً مناسك الحج وغيرها فلا حاجة أيضاً إلى تعليق اللام بأَسكنت مؤخراً للحصر { فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسَ } قلوباً جمع قلة أُريد به الكثرة إِلا أَنها قليلة بالنسبة، وسواءَ جعلنا من للتبعيض أَو للابتداءِ كَأنه قال: أَفئدة ناس أَو أَفئدة من الناس بخلاف ما لو قال: أَفئِدة الناس فإِنه يعم ويزدحم عليه فارس والروم واليهود والنصارى والمجوس، كما قال سعيد بن جبير عن ابن عباس لأَن دعاءَه مستجاب { تَهْوِى } تميل بسرعة { إِلَيْهِمْ } لا لذاتهم بل لزيارة البيت، وذلك دعاءٌ من إبراهيم للمؤْمنين بأَن يرزقهم الله الحج ولسكان مكة من ذريته بالرزق ممن يأْتيهم من الناس { وارْزُقْهُمْ مِّنَ الثَّمَرَاتِ } أَجاب الله دعاءَه فنقل إليها الطائِف من الشام وجعله حرما آمنا تجبى إليه ثمرات كل شىءٍ، حتى قيل: إنه تجتمع فيه فواكه الفصول فى يوم واحد، ويروى أن جبريل قلع أرضا من فلسطين ذات ثمار فطاف بها سبعا على البيت، ووضعها قريبا من مكة فسميت طائِفا، وذلك لدعوة إبراهيم بقوله: ارزقهم من الثمرات عموما فى دعائِه، ولا قصد له فى الطائف { لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } نعمك، جاءَ بابنه إسماعيل وهو يرضع وسريته هاجر من الشام وأنزلهما أرض مكة مع جراب تمر وسقاء ماء، ولا بناءَ بها ولا أَنيس ولا ماءَ ولا شجر، وأَدبر عنهما ومضى، وقالت رضى الله عنها مرارا كيف تتركنى هنا؟ ولم يلتفت إليها فقالت: آلله أمرك؟ فقال: نعم فقالت: إِذاً لا يضيعنى وذلك بعد نار نمروذ وقبل ولادة سارة إسحاق، ولما علا الثنية بحيث لا تراه رفع يديه إلى السماءِ مستقبلا فقال: { ربنا إِنى أَسكنت } إلى { يشكرون } وعطشا بعد نفاد السقاءِ فسارت إلى الصفا وعلته لعلها ترى أَحدا، وذهبت إلى المروة كذلك وترددت بينهما سبعا فكان السعى بينهما سبعا، وسمعت صوتا فتتبعته فإذا ملك عند ابنها فى محل زمرم وهو جبريل فضرب جبريل بعقبة أو جناحه موضع زمزم فنبع وشربا، وكانت تحوط عليه فقال الملك: لا تخافى عليه فإن هذا المقام يعمره ابنك ويبنى هو وأَبوه هنا بيتا لله - عز وجل -، ومر بهم قبيلة من جرهم ذاهبين إلى الشام، وعطشوا أو نزلوا ورأَوا طيور ترفرف فقالوا: لا تفعل ذلك إِلا على الماءِ، ولا ماء هنا، فأَرسلوا رجلا فوجد الماءَ فأَخبرهم وطلبوا النزول معهما على الماءِ على أَن يشركوها فى ألبانهم فقالت: نعم، وقد احتاجت إلى أَنيس، وشرطت أن لا حق لهم فى الماءِ إلا الانتفاع، فأَنعموا وأرسلوا إلى أَهلهم فنزلوا، ولما شب إسماعيل تعلم منهم العربية ففاقهم وأَعجبهم وتزوج منهم ثم ماتت أُمه.