الرئيسية - التفاسير


* تفسير تيسير التفسير/ اطفيش (ت 1332 هـ) مصنف و مدقق


{ فَقَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ ٱلرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } * { قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيۤ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } * { وَيٰقَوْمِ لاۤ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّلاَقُواْ رَبِّهِمْ وَلَـٰكِنِّيۤ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ }

{ فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفرُوا مِنْ قَوْمِهِ } الأَشراف الذين يملأُون العيون جمالا والقلوب جلالا والأَكف نوالا أَو بعض ذلك أَو يظن الجلال والنوال فيهم بالرؤْية أَو أَنهم مملوءُون بالآراءِ الصائِبة والأَحلام الراجحة وما لا يلزم ويتعدى أَو قادرون يقال ملأَ كذا أَى قدر عليه، أَو أَنهم متمالئُون أَى متعاونون أَو الجماعة مطلقاً { مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا } لست ملكا فكيف تختص بالرسالة من الله ووجوب الطاعة لك علينا { وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ } فى دينك { إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنَا } أَخساؤُنا بنحو نجس وحجامة وعمل الحدا، جمع أَرذل بفتح الهمزة والذال بمعنى أَخس وأَفعل يجمع على أَفاعل سواءٌ كان اسم تفضيل أَو اسماً غير صفة ولا يختص بالاسم فلا تهم قال الله تعالى أَكابر مجرميها، وقال صلى الله عليه وسلم " أَحاسنكم أَخلاقا " أَو جمع أَرذل بفتح الهمزة وضم الذال جمع رذل بفتحها وإِسكان الذال فيكون أَراذل على هذا جمع الجمع، وكذا إِن قيل جمع أَرذال وأَرذل جمع رذل حذفت أَلف أرذال فى الجمع لم تقلب ياءً { بَادِىَ الرَّأْىِ } ظاهر الرأْى من إِضافة النعت إِلى المنعوت على حذف مضافين أَى تظهر خستهم بلا تأَمل وذلك مبالغة فى ذمهم، ونصب على الظرفية أَى وقت حدوث الرأْى البادى، أَو يقدر حدوث الرأْى البادى لأَن حدوث مصدر ينصب على الظرفية، وجاز نصبه على الظرفية مع أَنه اسم فاعل لا مصدر لأَنه مضاف للمصدر نحو جئْت بادى طلوع الشمس، وبادى الرأْى ما لم يتعمق فيه بالكفر وهو متعلق بأَراذل فيما قيل، وفيه أَنه لم تحدث رذالتهم وقت حدوث بادى الرأْى بل يتعلق باتبعك أَى ابتعوك فى ظاهر رأْيهم أَو فى أَوله بلا تأَمل أَو تعمق، أَو اتبعوك فى ظاهر رأْيهم أَو أَوله، وليسوا معك فى الباطن والحقيقة، أَو يتعلق بمحذوف حال من الكاف فى اتبعك أَن اتبعك حال كونك مكشوف الرأْى أَو بمحذوف نعتاً لبشرا أَو بنرى قولك ما قام إِلا زيد أَحد فى عمل ما قبل إِلا فيما بعدها مع أَنه غير مستثنى، أَو بنسبة الكلام أَى محكوما عليهم فى بادى الرأْى إِنهم أَراذلنا وياءُ بادى عن واو لأَنه اسم فاعل يبدل واو عن همزة من البدىءِ، كما قرأَ أَبو عمرو وعيسى الثقفى بالهمزة، والرأْى مصدر رأَى يرى والمادة فى المواضع الأَربعة من معنى العلم لا من معنى الإِبصار؛ لأَن ذلك مما لا يدرك بالعين نعم تدرك الوسائِط، فباعتبارها يجوز أَن تكون بصرية والوضع الرابع قوله { وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ } من نحو مال وملك وغيرهما تستحقون به التقدم علينا ووجوب اتباعكم، وعن ابن عباس خلق وخلق، وعن بعضهم كثرة مال وملك، وقيل الفضل التفضل لم تتفضلوا علينا فنتبعك يا نوح فى نبوتك ولو كنت مثلنا ونتبعكم على ما أَنتم عليه معشر أَتباعه ولو كنتم أَراذل، وقيل الخطاب للأَتباع والمعنى لم تتفضلوا علينا بشىءٍ، ولكم مفعول ثان وفضل أَو وعلينا حال من فضل أَو متعلق بلكم أَو بمتعلقه وإِن كان نرى بصريا ففضل مفعوله ولكم متعلق بنرى أَو بمحذوف حال من فضل أَو يفضل لأَنه ولو كان مصدراً لكن لا ينحل إِلى فعل وحرف مصدر فساغ تقدم معموله ولا سيما أَنه ظرف { بَلْ نَظُنَّكُمْ كَاذِبِينَ } فى دعوى الرسالة التى يدعيها نوح لنفسه وتدعونها له، وإِنما أَدرجوا القوم المؤمنين معه فى الخطاب بلكم ونظنكم لأَنه ومن آمن به كواحد لاتحاد دعواهم وتمسكهم بها كتمسك واحد وما يترتب عليها هم مشتركون فيه، والمراد فى الآية أَنك لا تثبت لك النبوة لأَنك بشر مثلنا ولا مزية تخصك بالنبوة من مال وجاه ولو كان كانت النبوة، لكنا أَحق بها لأَنا ذوو مال وجاه وأَتباع شرفاءَ، والخطاب تغليب على الغيبة، وقيل الخطاب لهم دون نوح عليه السلام، وعبروا بالظن تجوزا عن أَن ينسبهم نوح وأَتباعه إِلى المجازفة ومجاراة على طريق الإِنصاف كما لم يصرحوا أَولا بالتكذيب، بل أَعرضوا واحتجوا بثلاث شبه بما نراك إِلا بشراً وردها بقوله ولا أَقول لكم أَنى ملك وبما نراك اتبعك إِلخ وردها بقوله لا أَعلم الغيب وبما نرى إِلخ وردها بقوله ولا أَقول لكم عندى إِلخ وردهن إِجمالا بقوله:

{ قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّى } أَخبرونى إِن كنت على بينة من ربى والاستعلاءُ مجاز، كأَنه قيل متمكن على بينة كالتمكن على فرس أَو على بمعنى مع والبينة البرهان والحجة فى أَنه رسول من الله { وَآتَانِى رَحْمةً } نبوة فيما روى عن ابن عباس، وقيل الرحمة البينة بمعنى أَن البرهان بينة ونعمة عظيمة، وقيل البينة دليل العقل { مِنْ عِنْدِهِ فعُمِّيَتْ عَلَيْكمْ } أَى البينة وهى غير الرحمة، فإِن الرحمة النبوة والبينة الحجة على ثبوتها، وهذا أَولى من جعلها معاً بمعنى البرهان وإِفراد الضمير باعتبار أَن المراد واحد ولو اختلف المفهوم لأَن الأَصل فى العطف التغاير وأَولى من تقديم على بينة من ربى فعميت عليكم، لأَن الأَصل عدم الحذف وأَولى من رد الضمير إِلى رحمة، لأَن النبوة تثبت بالبرهان، فنسبة الخفاءِ إِليها أَولى من نسبته إِلى النبوة المعبر عنها بالرحمة، فإِن معنى عميت خفيت مجازاً لأَن العمى حقيقة فيمن له العين وذلك استعارة مفردة، شبه الخفاءَ بالعمى، أَو مركبة شبه عموم الاهتداءَ بالحجة لخفائِها بسلوك مفازة لا تعرف طرقها ولا يخالف هذا ظاهر الآية أَو مجاز مرسل لأن الخفاء لازم العمى { أَنُلْزِمُكُمُوهَا } أَنجعلها لاصقة بكم ونجعلكم مهتدين بالإِجبار عليها لا قدرة لنا على ذلك ولم يأْمرنا الله تعالى بذلك { وَأَنْتُمْ لَها كَارِهُونَ } نافرون عنها مبغون لها بحيث لا تلتفتون إِليها ولا تتأَملون فيها لا يتصور الإِلزام مع ذلك، والصادر عنه الحث الشديد على الإِيمان دون الإِكراه والمراد بالإِلزام ما مر لا القتل لأَنه لم يؤمر به ولا يقدر عليه، ولا الإِيجاب لأَن الإِيجاب واقع وها فى الموضعين للبينة أَو للرحمة، وتقدم قول أَنهما شىءٌ واحد، وقيل ها للنبوة على حذف مضاف أَى قبول نبوتى، وهو غير ظاهر، وضمير التكلم لنوح ومن آمن به أَو لنوح إِعظاماً لمقام النبوة أَو له ولملائِكة الوحى كأَنهم خاطبوا معه وهم جبريل وإِسرافيل أَو لنوح وجبريل:

{ وَيَاقَوْمِ } ناداهم لطفاً بهم واستجلاباً وتلييناً لشدتهم، وكذا أَعاد النداءَ بعد لذلك وللإِشارة إِلى ما بعد النداءِ علة مستقلة بوجه مخصوص ظاهر الدلالة على وجوب الامتناع من الطرد { لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ } أَى على التبليغ للرسالة لأَنه معلوم من المقام، وإِن لم يجر له ذكر، ودل عليه إِنى لكم نذير مبين إِلخ، أَو الضمير عائِد إلى إِنى لكم نذير مبين إِلخ، وقيل الضمير للإِنذار، وقيل للدعاءِ إِلى التوحيد والأَمر بالعبادة وحدها هو الأَصل المقصود من التبليغ وإِرسال الرسل { مَالاً } تأْجروننى به بعد إِيمانكم فيكون أَجراً لى كما أَشار إِلى ذلك بقوله { إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللهِ } وهو الجنة، وفى التعبير بالأَجر تلويح بأَن المال لا يفى بأُجرتى ولو الدنيا كلها وأَكثر، وإِنما يفى بها أَجر الله لى بالجنة، وقد سأَلوه طرد الأَراذل وهم المؤمنون الفقراءُ، وليسوا أَراذل فنؤْمن بك نحن ونجالسك كما قال قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما ذكره الله عنه بقوله { وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُّلاَقُو رَبِّهِمْ } فيخاصموننى على طردهم فلا أَجد حجة وأَنهم يلاقونه بالفوز للإِيمان فكيف أَطردهم عما به يفوزون وبه أَمرهم الله عز وجل، وهذا المراد للمقام وإِلا فكل أَحد يلقى ربه بالموت وقيل: المعنى لا أَطردهم لأَنهم مصدقون فى الدنيا بالله تعالى عالمون أَنهم ملاقوه، وهو خلاف الظاهر لاحتياجه إِلى التأْويل باعتقدوا أَنهم ملاقو ربهم، وقيل المعنى يلاقون الله فيجازيهم إِن صح إِيمانهم كما ظهر منهم أَو يطردهم إِن كان إِيمانهم الظاهر غير محقق فى قلوبهم، وهذا غير متبادر وهو مبنى على تفسير بادى الرأْى بالإِيمان بلا تأَمل وتعمق، أَو بالإِيمان منافقة ولا يأْباه ترتب غضب الله تعالى لأَنه يبنى فى الكلام على حسب ما يظهر له واسم الفاعل فى الموضعين للاستقبال، ومع ذلك أُضيف لأَن الأَصل أَن يضاف لمفعوله كما قال أَبو حيان أَلا ترى أَن عمله للإِلحاق بالمضارع لا بذاته، وأَلا ترى أَنه كثيراً ما يرد غير عامل مع وجود شرط العمل { وَلَكِنِّى أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ } قدر المؤْمنين وعقاب طردهم فإِنهم أَولياءُ الله وخير منكم، أَو تجهلون لقاءَ ربكم بإِنكار البعث وهم يؤْمنون بالبعث ويأْملون الثواب الجزيل الدائِم أَو تجهلون فى التماس طردهم، أَو فى تسميتهم أَراذل وهم غير أَراذل فإِن أَتباع الرسل فى أَول أَمرهم الفقراءُ، ومن ليس مقدماً لعدم خوف من زوال جاه ورياسة لعدمهما وعدم حسد لأَن الأَكبر لا يناسبه المتضع بل يؤْمنون توفيقاً من الله إِلى حب الحق واختياره، وقد يؤْمن الإِنسان ليرتفع من خمول ثم يخلص لله، والجهل يطلق على السفه بقول أَو فعل وعلى عدم العلم فيجوز أَن يكون المعنى يسفهون عليهم.

السابقالتالي
2