الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوَالِفِ وَطَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }

هناك قال سبحانه: { مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ } الذين كانت لهم أعذارهم في التخلف عن الجهاد، ولكن كانوا محسنين في تخلفهم هذا فقال تعالى: { إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ }. إذن: فعلى من يكون السبيل؟ وهنا تأتي إجابة الحق سبحانه: { إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ }. أي: أن طريق الإثم واللوم والتعنيف والتوبيخ إنما يتجه إلى هؤلاء الأغنياء الذين استأذنوا في أن يقعدوا عن القتال، ونعلم أن الغني إذا أطلق ينصرف إلى غنى المال، ولكن الغنى إذا جاء بالمعنى الخاص، يكون معناه ما يدل عليه النص. فالذي لا يجد ما ينفقه أعْفيَ. إذن: فمن يجد ما ينفقه فهو غنيّ بطعامه. والضعيف قد أعفيَ، إذن: فالقويّ غنيّ بقوته. والمريض أعْفيَ، إذن: فالصحيح غنيّ بصحته، ومن لا يجد ما ينقله إلى مكان الجهاد قد أعفيَ، إذن: فمن يملك راحلة فهو غنيّ براحلته. وعلى ذلك لا تأخذ كلمة " الغنى " على المال فقط، بل انظر إلى من تنطبق عليه شروط الجهاد؟ إذن: فاللوم والتوبيخ والتعنيف والإثم على الأغنياء بهذه الأشياء، وطلبوا أن يقعدوا عن الجهاد. ولسائل أن يقول: ولماذا يستأذنون وهم أغنياء؟ نقول: لأنهم منافقون، وقد وضعهم نفاقهم في موضع الهوان، حتى قال الحق سبحانه وتعالى عنهم: { رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوَالِفِ } ومن يَرضَ أن يكون وضعه مع الخوالف، فهو يتصف بدناءة النفس وانحطاط الهمة فهم رضوا أن يُعاملوا معاملة النساء، والخوالف - كما نعلم - جاءت على مراحل، فهم قالوا:ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ ٱلْقَاعِدِينَ } [التوبة: 86]. وقلنا من قبل: إن القعود مقابل للقيام، والقيام من صفات الرجولة لأن الرجل قَيِّم على أهله. والقعود للنساء، والخوالف ليست جمع خالف، وإنما هي جمع " خالفة " ، ولا يجمع بها إلا النساء، وكذلك كلمة " القواعد " يقول سبحانه:وَٱلْقَوَاعِدُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ... } [النور: 60]. أي: أنهم ارتضوا لأنفسهم دناءة وخسة فتنازلوا عن مهام الرجال، وارتضوا أن يكونوا مع النساء هرباً من القتال، والشاعر يقول:
وَمَا أدْرِي ولسْتُ إخَالُ أدْري   أقوْمٌ آلُ حِصْنٍ أمْ نسَاءُ
أي: " القوم " في مقابل " النساء ". ثم يعلمنا الحق سبحانه وتعالى بعقابهم، فيقول: { وَطَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }. وفي الآية السابقة يقول سبحانه:وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ... } [التوبة: 87]. ما الفرق بين النصين؟ إذا رأيت فعلاً تكليفيّاً مبنيّاً للمجهول، كقوله تعالى:كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ... } [البقرة: 216]. وقوله سبحانه:كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ... } [البقرة: 183]. قد يقول قائل: كان المفروض أن يقال: " كتب الله عليكم القتال " و " كتب الله عليكم الصيام " ، لأنه صار أمراً لازماً مفروضاً، فكان الأولى أن يقول: كتب الله، أي أن الذي يفرض هو الله.

السابقالتالي
2 3