الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَٰلُهُمْ وَأَوْلَـٰدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي ٱلدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَٰفِرُونَ }

ونعلم أن الحق قال في آية سابقة:فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [التوبة: 55]. والنص القرآني إذا ما اتفق مع نص آخر، نقول: إن الأداء الخاص ومقتضيات الأحوال تختلف، ومن ينظر إلى خصوصيات ومقتضيات الأحوال يعلم أن هذا تأسيس وليس تكراراً، فقد تحمل آيتان معنى عامّاً واحداً، ولكن كل آية تمس خصوصية العطاء، ولنأخذ مثالاً من قوله الحق:وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ... } [الأنعام: 151]. وقوله تعالى:وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم... } [الإسراء: 31]. وقد ادعى بعض المستشرقين أن في القرآن تكراراً، وهذا غير صحيح لأنهم ينظرون إلى عموم الآية ولا ينظرون إلى خصوصية العطاء. وخصوصية العطاء في الآية توافق مقتضى كل حال. ففي قوله سبحانه عن رزق الأولاد لم يلتفتوا إلى صدري الآيتين بل التفتوا إلى عجُز الآيتين، وذلك من جهلهم بملكة الأداء في البيان العربي. ولنا أن نسأل هؤلاء المستشرقين الذين يثيرون مثل هذه الأقاويل: هل ترون أن آية من الآيتين أقل بلاغة من الأخرى؟ ولن نجد إجابة عندهم لأنهم لا يعرفون دقة البيان العربي. ونقول لهم: أنتم إن نظرتم إلى عَجُز كل آية وصدرها لوجدتم أن آخر الآية يقتضي أولها، وإلا لما استقام المعنى، فالله سبحانه وتعالى لم يَقُلْ في الآيتين: { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ } وإنما قال: { مِّنْ إمْلاَقٍ } ، وقال: { خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } ولم يقل في الآيتين: { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } بل قال: { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } وقال: { نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ }. إذن: فبداية الآيتين مختلفة الآية الأولى: { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ }. والإملاق هو الفقر، فكأن الفقر موجود فعلاً. وقوله تعالى: { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } ، فكأن الفقر غير موجود، ولكن الإنسان قد يخشى أن يأتي الفقر بمجيء الأولاد. إذن: فالآية الأولى تخاطب الفقراء فعلاً، والآية الثانية تخاطب غير الفقراء الذين يخشوْنَ مجيء الفقر إن رُزِقوا بأولاد والفقير - كما نعلم - يُشغل برزقه أولاً قبل أن يُشغلَ برزق أولاده. ولذلك يطمئنه الحق سبحانه وتعالى على أن أولاده لن يأخذوا من رزقه شيئاً، فيقول: { نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } أي: اطمئن أيها الفقير على رزقك فلن يأخذ أولادك منه شيئاً لأن الحق سبحانه وتعالى يرزقك أولاً ويرزق أولادك أيضاً. أما غير الفقير الذي يخشى أن يجيء الولد ومعه الفقر فقد ينشغل بأن المولود الجديد سيأتي ليُحوِّل غناه إلى فقر. ويخاطبه الحق سبحانه وتعالى بقوله: { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } أي: أن رزقهم يأتي من عند الله قبل رزقكم أنتم، فلا تخشوا الفقر وتقتلوا أولادكم لأن الحق سبحانه وتعالى سيرزقهم، فلن يصيبكم الفقر بسبب الأولاد.

السابقالتالي
2 3 4