الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }

والضحك هو انفعال غريزي فطري، يحدث للإنسان عندما يقابل شيئاً يسره، أو أحداثاً يجد فيها مفارقة لم يكن يتوقعها. أما البكاء فهو انفعال غريزي أيضاً تجاه أحداث تدخل الحزن أو الشجن، وهو تذكر ما يحزن بالنسبة للإنسان. وكلتاهما ظاهرتان فطريتان، أي أنهما تحدثان بفطرة بشرية واحدة بالنسبة للناس جميعاً، ولا دخل فيها للجنس أو اللون أو البيئة، فلا يوجد بكاء روسي وبكاء أمريكي، أو ضحك روسي وضحك إنجليزي، أو ضحك شرقي وضحك غربي. ذلك أن الضحك والبكاء انفعال طبيعي موحد لا تؤثر فيه البيئة ولا الثقافة ولا الجنس. وقد أسنده الحق تبارك وتعالى لنفسه. فكما قلنا: إن الله سبحانه وتعالى وحده هو الذي يحيي، وهو سبحانه وحده الذي يميت. فهو سبحانه وحده الذي يضحك، وهو سبحانه وحده الذي يبكي. مصداقاً لقوله تعالى:وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنَّهُ خَلَقَ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } [النجم: 43-45]. ولذلك فالضحك والبكاء يأتيان بلا مقدمات، لا أقول لنفسي: سأضحك الآن فأضحك، ولا أقول: سأبكي الآن فأبكي لأن هذا انفعال غريزي لا دخل للإرادة ولا للاختيار فيه. ولكننا أحياناً نلجأ إلى التضاحك أو إلى التباكي وهو مجرد ادعاء بلا حقيقة. ويكون ظاهراً فيه الافتعال. فحين يروي لك إنسان نكتة سخيفة، والمفروض أنه قالها لتضحك، ولكنها لا تضحكك، وفي نفس الوقت أنت تريد أن تجامله فتفتعل الضحك، أي تضحك بافتعال. وكذلك البكاء فيه افتعال أيضاً مثل بكاء النادبة التي تجلس وسط أهل الميت وتبكي. وقد تضع بعض نقط الجلسرين في عينيها لتفتعل الدموع، وهذا كله افتعال. أما الضحك والبكاء الحقيقي، فأمران بالفطرة يملكهما الله سبحانه وتعالى وحده. وقول الحق سبحانه وتعالى: { فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً } جاء بعد قوله: { فَرِحَ ٱلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ ٱللَّهِ } أي: أنهم فرحوا عندما بَقَوْا هم في المدينة، وخرج المؤمنون للجهاد. جلسوا في حدائق المدينة وهم فرحون في راحة وسرور يضحكون لأنهم يعتقدون أنهم قد فازوا بعدم اشتراكهم في الجهاد. ولكن هذا الضحك هو لفترة قليلة. وسيأتي بعدها بكاء وندم لفترة طويلة وأبدية، عندما يدخلون جهنم والعياذ بالله. ونلحظ أن الحق سبحانه وتعالى قال: { فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً } ولم يقل: سيضحكون قليلاً وسيبكون كثيراً، لماذا؟ نقول: عندما يُسند الفعل إلى المخلوق الذي يعيش في عالم الأغيار، والمختار في عدد من أفعاله، يُحتمل أن يحدث أو يجوز ألا يحدث. ولكن الحق سبحانه وتعالى حين يقول: { فَلْيَضْحَكُواْ } أي: أمر بالضحك، ثم يجيء في البكاء ويقول: { وَلْيَبْكُواْ } أي: ابكوا والأمر بالضحك والبكاء هو أمر اختياري من الله سبحانه وتعالى، تجوز فيه الطاعة وتجوز فيه المعصية؟ إذا كان كذلك، فهل سيطيع المنافقون أمراً اختيارياً لله؟ ونقول: إن ذلك أمر غير اختياري لأن الحق سبحانه هو وحده الذي يضع في النفس البشرية انفعال الضحك أو انفعال البكاء للأحداث.

السابقالتالي
2 3 4 5