الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِينَ يَلْمِزُونَ ٱلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ ٱللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

واللمز: معناه العيب، ولكن بطريق خفي، كإشارة بالعين أو باليد أو بالفم أو بغير ذلك. إذن: فهناك مجموعة من المنافقين يعيبون في المطوِّعين لجمع الزكاة من المؤمنين، ومن هؤلاء المنافقين من يعيب بالقول، ومن يعيب بالفعل، ومن يعيب بالإشارة، والمطوِّعون هم الذين يتطوعون بشيء زائد من جنس ما فرض الله. فالله فرض مثلاً خمس صلوات، وهناك من يصلي خمس صلوات أخرى تطوعاً، وفرض الحق الزكاة اثنين ونصفاً بالمائة، وهناك من يصرف عشرة بالمائة تطوعاً، وفرض الحق صيام شهر رمضان، وهناك من يصوم فوق ذلك كل اثنين وخميس. وهذا ما نسميه دخول المؤمن في مقام الإحسان بأن تتقرب إلى الله بما يزيد على ما فرضه الله عليك، من جنس ما فرضه الله. وأنت إن أديت المفروض تكون قد التزمت بالمنهج، وقد سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فرائض الإسلام ثم قال: لا أزيد ولا أنقص، فقال الرسول الكريم: " أفلح إن صدق ". والزيادة على ما فرضه الله، ومن جنس ما فُرِضَ يكون لها ملحظان: الأول: أن العبد يشهد لربه بالرحمة لأنه كُلِّفَ دون ما يستحق. والملحظ الثاني: هو أن عمل الطاعة قد خفّف على المؤمن فاستراح بها. ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة: " أرحنا بها يا بلال ". إذن: فالمطوِّع هو الذي يزيد على ما فرض الله عليه من جنس ما فرض الله وهؤلاء هم المحسنون الذين قال الحق عنهم في سورة الذاريات:إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } [الذاريات: 15-19]. فالمنهج لا يلزمني بأن أنام قليلاً من الليل وأقضي بقيته في الصلاة، ولم يلزمني أحد بالاستغفار في الأسحار. ولم يقل الله سبحانه في هذه الآية إن في المال حقاً معلوماً لأن الإنسان المؤمن هنا يعطي بأكثر مما فُرِض. وعندما يتطوع مؤمن ويزيد على ما فرض الله، أيستحق أن يُذَمَّ ويُعَابَ ويُلْمز؟ أم أنه يستحق أن يُكرَّم ويُقدَّر؟ ولكنّه اختلال موازين المنافقين في الحكم على الأشياء. لذلك اعتبروا الحسنة نقيصة، تماماً كالذي يُخرج ماله للفقراء، ونجد من يسخر منه بالقول عنه " إنه أبله " ، مع أن المؤمن حين يتصدق كثيراً فهو يشيع فائدة ماله في المجتمع، وهو الأكثر ذكاء منهم لأنهم أنفقوا المال على أنفسهم فَأفْنَوْه، بينما تصدق هو به فأبقاه. وقول الحق سبحانه وتعالى: { ٱلَّذِينَ يَلْمِزُونَ ٱلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ } لها واقعة، فقد هاجر عبد الرحمن بن عوف إلى المدينة، وترك أمواله وكل ما يملك في مكة، وآخى رسول الله بين المهاجرين والأنصار، فجعل لكل رجل من الأنصار رجلاً من المهاجرين يشاركه في ماله.

السابقالتالي
2 3 4 5 6