الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ ٱلْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُوۤاْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي ٱلأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ }

وفي هذه الآية الكريمة يبين لنا الحق سبحانه وتعالى حلقات الحلف بالكذب للمنافقين فهم يحلفون أنهم ما قالوا، ويجعلون الله عرضة لأيمانهم مع أنهم قالوا كلمة الكفر، وكفروا بعد أن أعلنوا الإسلام بلسانهم، وإسلامهم إسلامٌ مُدَّعًى. ولهذه الآية الكريمة قصة وقعت أحداثها في غزوة تبوك التي حارب المسلمون فيها الروم، وكانت أول قتال بين المسلمين وغير العرب، حيث دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه الغزوة في فترة شديدة الحرارة، وكان كل واحد في هذه الفترة يفضل الجلوس في الأخياف، أي الحدائق الصغيرة، ويجلسون تحت النخيل والشجر في جو رطب ولا يرغبون في القيام من الظل. وعندما دعا رسول الله للجهاد في سبيل الله، والذهاب إلى قتال الروم، تلمَّس المنافقون الأعذار الكاذبة حتى لا يذهبوا للجهاد فظلَّ القرآن ينزل في هؤلاء الذين تخلفوا عن هذه الغزوة شهرين كاملين، فقال رجل اسمه الجلاس بن سويد: والله إن كان ما يقوله محمد عن الذين تخلفوا عن القتال صِدْقاً فنحن شرٌّ من الحمير. وهنا قال عامر بن قيس الأنصاري: لقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم شر من الحمير. وأنت يا جلاس شر من الحمار. وهنا قام عدد من المنافقين ليفتكوا بعامر بن قيس الأنصاري لأن الجلاس بن سويد كان من سادة قومه. وذهب عامر بن قيس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بما حدث، فاستدعى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن سويد وسأله عن الخبر، فحلف بالله أن كل ما قاله عامر بن قيس لم يحدث. وتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن حلف بالله. وهنا رفع عامر بن قيس يده إلى السماء، وقال: اللهم إني أسألك أن تنزل على عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم تصديق الصادق وتكذيب الكاذب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " آمين ". ولم ينتهوا من الدعاء حتى نزل الوحي بقول الحق جل جلاله: { يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ ٱلْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ }. وهكذا حسمت هذه الآية الكريمة الموقف. وأظهرت من هو الصادق ومن هو الكاذب فيما رواه عامر بن قيس وأنكره الجلاس. ولكن الآية الكريمة تجاوزت ما عُرف من الحادثة إلى ما لم يبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال سبحانه: { وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ } ذلك أن الله تبارك وتعالى أراد أن يُعلم المنافقين أن سبحانه يخبر نبيه بما يخفيه المنافقون عنه، ولو نزلت الآية فقط في حادثة الحلف الكذب، لقال المنافقون: ما عرف محمد - عليه الصلاة والسلام - إلا ما قاله عامر، ولكن هناك أشياء لم يسمعها عامر وهم قالوها، ذلك أن المنافقين كانوا قد تآمروا على حياة النبي صلى الله عليه وسلم واتفقوا على قتله عند عبوره العقبة، والعقبة هذه هي مجموعة من الصخور العالية التي تعترض الطريق، فيتحايلون على اجتياز هذه العقبة بأن يعبروها أحياناً من أنفاق منخفضة، وأحياناً يعبرونها بأن يصعدوا فوقها ثم ينزلوا.

السابقالتالي
2 3 4