الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ وَلَـٰكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ ٱلشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَوِ ٱسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }

والعَرَضُ هو ما يقابل الجوهر، والجوهر هو ما لا تطرأ عليه أغيار، فالصحة عَرَض والمرض عرض لأن كليهما لا يدوم، إذن فكل ما يتغير يسمى عَرَضاً يزول. ويقال: الدنيا عَرَضٌ حاضر يأكل منها البَرُّ والفاجر. إذن: فقول الحق سبحانه وتعالى: { لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً } أي: لو كان أمراً من متاع سهل التناوب، ومحبباً للنفس وليس فيه مشقة السفر والتضحية بالمال والنفس لأسرعوا إليه. { وَسَفَراً قَاصِداً } ، والقاصد هو المقتصد الذي في الوسط وبعض الناس يسرف في الكسل، فلا يستنبط الخير من السعي في الأرض ومما خلق الله، وبعض الناس يسرف في حركة الدنيا ويركض كركض الوحوش في البرية، ولا يكون له إلا ما قسمه الله. وأمزجة الناس تتراوح ما بين الإسراف والتقتير، أما المؤمن فعليه أن يكون من الأمة المقتصدة. والحق هو القائل:مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ } [المائدة: 66]. لأن المؤمن لا يأخذه الكسل فيفقد خير الدنيا، ولا يأخذه الإسراف فينسى الإيمان. إذن: فالحق سبحانه وتعالى يوضح لرسوله صلى الله عليه وسلم أنه لو كان هناك متاع من متاع الدنيا أو سفر بلا مشقة ولا تعب لاتبعوك، فهم لم يتبعوك لأنه ليست هناك مغانم دنيوية لأن هناك مشقة، فالرحلة إلى تبوك، ومقاتلة الروم، وهم أصحاب الدولة المتحضرة التي تضع رأسها برأس دولة الفرس، وهذه أيضاً مشقة، والعام عُسْر والحر شديد، ولو أن الأمر سهل مُيسَّر لاتبعوك. ويتابع سبحانه: { وَلَـٰكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ ٱلشُّقَّةُ } أي: أن المشقة طويلة، ثم يقول: { وَسَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَوِ ٱسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } هم إذن لم يتبعوك لأن المسألة ليست عرضاً قريباً ولا سفراً سهلاً، بل هي رحلة فيها أهوال، وتضحيات بالمال والنفس، وحين تعود من القتال سوف يحلفون لك أنهم لو استطاعوا لخرجوا معكم للقتال. وقد قال الحق ذلك قبل أن تأتي أوان الحلف، وهذه من علامات النبوة لكي يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم المنافقين مِنْ صادقي الإيمان. وسبحانه وتعالى يفضح غباء المنافقين لذلك قال: { وَسَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ } واستخدام حرف السين هنا يعني أنهم لم يكونوا قد قالوها بعد، ولكنهم سيقولونها في المستقبل، ولو أنهم تنبهوا إلى ذلك لامتنعوا عن الحلف. ولقالوا: إن القرآن قال سنحلف، ولكننا لن نحلف. ولكن الله أعماهم فحلفوا، وهكذا يأتي خصوم الإسلام ليشهدوا - رغم أنوفهم - للإسلام. ومثال آخر على نفس الأمر عندما حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة الشريفة قال الحق سبحانه وتعالى:سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ٱلَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا } [البقرة: 142]. وقوله هنا { سَيَقُولُ } معناها أنهم لم يقولوا بعد، وإلا ما استخدم فيها حرف السين. وهذه الآية نزلت في القرآن يتلى ولا يتغير ولا يتبدل إلى يوم القيامة.

السابقالتالي
2