الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ ٱقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ }

والخطاب هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليبلغه للمؤمنين. وقد جاء سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة بمراحل القرابة، فذكر أولاً صلة النسب من آباء وأبناء وإخوة، ثم الزواج، وهو وسيلة التكاثر، ثم الأهل والعشيرة، ثم الأموال التي نملكها فعلاً، ثم الأموال التي نريد أن نكسبها، ثم المساكن التي نرضى بها، وبعد ذلك ذكر التجارة التي تزيد من المال. وفرَّق الله سبحانه بين الأموال التي في حوزتنا وبين التجارة لأن التجارة قد تأتي لنا بأموال فوق الأموال، والإنسان لا يحصل على سكن إلا إذا كان عنده فائض من المال. ويذكرنا الحق سبحانه هنا إن كانت أي مسألة من هذه الأشياء، وهي زينة الحياة الدنيا أحب إليكم من الله ورسوله والجهاد في سبيل الله { فَتَرَبَّصُواْ } أي انتظروا حتى يأتيكم أمر الله، وجينئذ ستعرفون القيمة الحقيقية للدنيا وقيمة ما عند الله تعالى من رضاء ونعيم. ولهذه الآية الكريمة أسباب نزول، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أُمِرَ بالهجرة من مكة إلى المدينة، أمر المسلمين بالهجرة، فتركوا أموالهم التي اكتسبوها بمكة وتجاراتهم ومساكنهم، وآبائهم وأبنائهم، وإخوانهم وأزواجهم وعشائرهم، التي تستطيع حمايتهم، تركوا كل هذا وهاجروا لأرض جديدة. ولكن من المسلمين من ركنوا للدنيا فبقوا بجوار أموالهم وأزواجهم وأبنائهم المشركين، وكانت الواحدة من النساء المشركات تتعلق بقدمي زوجها المسلم الذي يريد الهجرة حتى لا يتركها فكان قلبه يرقُّ لها، ومنهم من كان يخشى ضياع ماله وكساد تجارته، التي بينه وبين المشركين، فنزلت هذه الآية. إن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يوضح قيمة الانتماء الإيماني ويدرب المؤمنين عليه. فقد كان المسلم لا يتم إيمانه حتى يهاجر، ويصارم أهله وأقاربه ويقاطعهم، فشق ذلك عليهم. وقالوا: يا رسول الله إن نحن اعتزلنا من خالفنا في ديننا قطعنا آباءنا وأبناءنا وأزواجنا وأقاربنا، وخفنا على أموالنا وتجارتنا من الفساد، وخفنا على مساكننا أن تخرب، وبذلك نضيع، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وكأنها تأمرهم بأن كسب الإيمان أعلى من أي كسب آخر، فأنزل الحق سبحانه وتعالى الآية الكريمة: { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ ٱقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَٰرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَٰكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَٰسِقِينَ } [التوبة: 24]. ولما نزلت هذه الآية الكريمة أخذها الصحابة مأخذ الجد وهاجروا وقاطعوا آباءهم وأبناءهم، حتى إن الواحد منهم كان يلقى أباه أو ابنه فلا يكلمه، ولا يدخله بيته، ولا ينزله في منزله إن لقيه، ولا ينفق عليه، إلى أن نزلت الآية الكريمة:وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً.. }

السابقالتالي
2 3 4