الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }

ساعة تسمع " أم " فاعلم أنها إضرابية، أي: ما كان الله سبحانه ليترككم حتى يعلم - علم الواقع - من منكم يؤمن إيماناً يؤهله للجهاد في سبيل الله فإن ظننتم أن الله تارككم بدون ابتلاء وبدون أن يختبركم ويمحصكم، فيجب أن تعرضوا عن ذلك وتفهموا ما يقابله. إذن فالابتلاء أمر ضروري لمن أراد الله تعالى له أن يتحمل أمر الدعوة ليواجه شراسة التحلل والفساد، لذلك يُصفِّي الله من آمنوا حتى يقف كل واحد منهم موقف الانتماء إلى الله مضحيا في سبيل الله. وساعة يقول الحق عز وجل في شيء كلمة { وَلَمَّا يَعْلَمِ } فليس معنى ذلك أنه لم يعلم وسيعلم، لا، فسبحانه يعلم كل شيء أزلاً، ولكن العلم الأزلي لا يكون حجة على البشر. ودائماً أضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - نجد عميد إحدى الكليات أحياناً يعلن عن جائزة علمية يريد أن يعطيها للمتفوقين فيقول له المدرس الذي يشرف على تحصيل التلاميذ: إن فلاناً هو الأول وهو يستحق الجائزة، فيقول العميد: ولكني أريد أن تعقد امتحاناً ليكون حجة على غير المتفوقين وهذا هو علم الواقع العملي الذي أراده الحق عز وجل من الابتلاء، وسبحانه وتعالى يعلم كل شيء أزلا، ولكن العلم الواقعي هو حجة على المخالفين. { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ.. } [التوبة: 16]. أي بدون ابتلاء أو تمحيص. وقوله تعالى: { وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ.. } [التوبة: 16]. " ولمَّا " للنفي، ومثلها مثل قولنا: " لما يأت " أي: أنه لم يتحقق المجيء حتى الآن، وتختلف " لما " عن " لم " ، فـ " لم " لا تؤذن بتوقع ثبوت ما بعدها، فما يأتي بعدها لن يتحقق أبداً، أما " لما " فتؤذن بتوقع ثبوت ما بعدها، أي أن ما بعدها.. لم يتحقق إلى لحظة نطقها، ولكنه قد يتحقق بعد ذلك. فإن قلت: " لما يثمر بستاننا " أي: أن البستان الذي تملكه لم يثمر، ولكنه قد يثمر بعد ذلك. وسبحانه وتعالى يقول:قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ.. } [الحجرات: 14]. ومعنى القول الكريم: أن الإيمان لم يدخل في قلوبهم إلى الآن، ولكنه سوف يدخل بعد ذلك، وهذه بشارة لهم. فقد قالت الأعراب: " آمنا " فأوضح الحق سبحانه وتعالى: بل أسلمتم ولم يدخل الإيمان قلوبكم لأن الإيمان هو الاعتقاد القلبي الجازم، والإسلام انقياد لما يتطلبه إيمان القلب من سلوك، أي: أنتم قد سلكتم سلوك الإسلام، ولكنه سلوك سطحي لم يأت من ينابيع القلب. وقول الحق هنا: { وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ.

السابقالتالي
2 3