الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ }

وقوله تعالى: { فَقَاتِلُوۤاْ } في الآية السابقة كانت حثا للمؤمنين على القتال، و { قَاتِلُوهُمْ } الثانية التي في هذه الآية للتحريض والترغيب في القتال، وأمر إيماني للمؤمنين بأن يقاتلوا الكفار. ثم يأتي المولى سبحانه وتعالى في هذه الآية بالحكمة من الأمر بالقتال فيقول: { يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } ونتساءل: إذا كان الله يريد أن يعذبهم فلماذا لا يأتي بآية من عنده تخضعهم للعذاب؟ نقول: لو انتصر المؤمنون بحدث كوني غير القتال لقال الكفار: حدث كوني هو الذي نصرهم. ويشاء الله سبحانه وتعالى أن ينهزم هؤلاء الكفار بأيدي المؤمنين لأن الكفار ماديون لا يؤمنون إلا بالأمر المادي، ولو أنهم كانوا مؤمنين بالله لانتهت المسألة، ولكن الله سبحانه وتعالى يريد أن يُرِيَ الكفار بأس المؤمنين لتمتلىء قلوبهم هيبة وخوفاً من المؤمنين، ويحسبوا لهم ألف حساب، فلا تحدثهم أنفسهم بأن يجترئوا على الإيمان وعلى الدين أو أن يستهينوا بالمؤمنين. ولقائل أن يقول: إن الحق هنا يأمر فيقول: { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ }. وفي آية أخرى يقول:وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ.. } [الأنفال: 33]. فكيف يثبت الله العذاب وينفيه؟. ونقول: لقد نزلت الآيتان في الكفار. وسبحانه وتعالى يقول: { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } ولو قال: قاتلوهم تعذبوهم بأيديكم لاختلف المعنى، ولكن الآيتين تثبت إحداهما العذاب والأخرى تنفيه، ونقول: إن الجهة منفكة، فقوله تعالى: { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } أي: لا ينزل الله تعالى عليهم عذاباً من السماء ما دمت فيهم، وقد وضح هذا في قوله تعالى:وَإِذْ قَالُواْ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [الأنفال: 32-33]. فقد سبق أن طلب الكفار عذاباً من السماء ينزل عليهم إن كان القرآن هو الحق فرد الحق سبحانه وتعالى بأنه لا يعذبهم ما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم لأنه أرسله رحمة للعالمين. ولكن عدم تدخل السماء بالعذاب بعد بعث رسول الله بالرسالة، لا يعني أن العذاب قد انتهى بالنسبة للكفار. وائتمن سبحانه المؤمنين على نصرة منهجه ودينه وهو معهم. ولكن العذاب يتم بالأسباب الأرضية، ولا يوجد تناقض. لأن العذاب من السماء قد يكون استئصالاً لكل الكافرين صغاراً وكباراً، كأن يغرقهم الطوفان، أو تأتي الصيحة فتبيدهم عن آخرهم، أو تجيئهم ريح صرصر عاتية تدمرهم، أو تصيبهم الرجفة فتجمدهم، وفي كل هذه الحالات لا يبقى أحد من الكفار، ولكن القتال البشري لا يقضي على الكفار نهائياً، فالإسلام يمنعنا من قتال النساء والصبيان، ومن قتال الذين لم يقاتلونا. إذن فالعذاب بعد رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس عذاب استئصال وإبادة كما كان في الأمم السابقة.

السابقالتالي
2