الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ يَـٰأيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ }

وساعة ينادي الحق عزّ وجلّ عباده المؤمنين، فهو سبحانه إما أن يناديهم بحكم يتعلق بالإيمان، وإما أن يناديهم بالإيمان ويطلب منهم الإيمان مثل قوله الحق:يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ... } [النساء: 136]. والحق سبحانه يُبيّن للذين آمنوا به قبل أن يخاطبهم، أنه من الممكن أن يؤمن الإنسان ثم يتذبذب في إيمانه، فيطلب منه الحق " دوام الإيمان ". فإذا طلب الله من عباده ما كان موجوداً فيهم ساعة الخطاب، فالمطلوب دوامه، وإن طلب منهم حكماً يتعلق بالإيمان، فهو يوجّههم إلى الاستماع وتطبيق ما يطلب منهم، ومثال هذا قول الحق سبحانه: { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } [التوبة: 119]. وكلمة { ٱتَّقُواْ } تعني: اجعلوا بينكم وبين الله وقاية، ويتساءل البعض: هل يطلب أحد من الإنسان أن يجعل بينه وبين ربه وقاية؟ إن العبد المؤمن يطلب أن يكون في معيَّة الله. وهنا تأتي ضرورة فهم صفات الجمال وصفات الجلال. إن قوله سبحانه: { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } يعني: اجعلوا بينكم وبين صفات الجلال وقاية، مثلما قال سبحانه:فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ } [البقرة: 24]. لأن النار من جنود صفات الجلال، فاجعلوا بينكم وبين الله وقاية من صفات الجلال. وهنا يقول الحق: { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ } ، وفسر بعض العلماء قوله: { وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ } بمعنى كونوا من الصادقين، أي: أن " مع " هنا بمعنى " من " والمقصود أن يعطي هذا القول معنى إجماليّاً عامّاً. لكني أقول: هناك فرق بين { وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ } و " كونوا من الصادقين " ، فقوله الحق: { وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ } أي: التحموا بهم فتكونوا في معيّتهم، وبعد أن تلتحموا بهم يأتي الذين من بعدكم ويجدونكم مع الصادقين. ويقتضي الأمر هنا أن نتذكر ما سبق أن قلناه عن النسبة الكلامية والنسبة الذهنية، فأيُّ قضية تمر على ذهنك قبل أن تقولها هي نسبة ذهنية، مثل قولك: " محمد زارني " ، وأنت قبل أن تقول هذه العبارة جاء إلى ذهنك أن تنطقها، وهذه " نسبة ذهنية ". ومن يسمعك لا يدري بها، ولكونك المتكلم فأنت وحدك الذي تدري بها، فإذا ما نطقتها وسمعها منك المخاطب علم أن نسبة ذهنية جاءت في ذهنك فترجمتها قولاً بالنسبة الكلامية. فحين قلت: " محمد زارني بالأمس " جاءت في ذهنك قبل أن تقولها، فلما سمعها السامع عرف أن هناك نسبتين نسبة سمعها عن نسبة عندك. وحين يمحّص السامع هذا القول يعلم أن هناك واحداً في الواقع اسمه محمد وعلم منك أنه قد زارك، وخبرته معك دائماً أنك صادق، إذن: فالصدق هو أن تتطابق النسبة الكلامية مع الواقع. أما إذا قلت: إن محمداً قد سافر إلى أمريكا، وهو لم يسافر، فهذا يعني أن النسبة الكلامية لم تتطابق مع النسبة الواقعية وهذا هو الكذب.

السابقالتالي
2 3