الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُطَّهِّرِينَ }

فهل قوله الحق: { لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً } معناه أن يظل المسجد قائما ولا تقام فيه صلاة؟ هل { لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً } صيغتها النهي، أي لا تُصَلِّ فيه، أم أنها إخبار من الحق بأنك لن تقيم فيه صلاة أبداً لأنه لن يكون له وجود؟ إن قوله الحق سبحانه يعني أن هذا المسجد يجب ألا يكون له وجود، ثم تجد الله سبحانه يقول: { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ } إذن: فالمسألة ليست في بناء المسجد، ولكنها فيمن يدخل المسجد ويعمره، فهنا مسجد، وهناك مسجد، أما المسجد الأول فقد أسس على التقوى، وفيه أناس يحبون أن يتطهروا، أما مسجد الضرار فقد أقامه منافقون يحبّون أن يتقذروا لأنهم المقابل لمن يحبون أن يتطهروا. ومعنى الحب هو ميل الطبع إلى شيء تنبسط له النفس وتخِفُّ لعمله. وحينما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا معشر الأنصار، إن الله قد أثنى عليكم في الطهور، فما طهوركم هذا؟ قالوا: يا رسول الله نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهل مع ذلك من غيره؟ ". وهنا قال أهل قباء: " لا، غير أن أحدنا إذا خرج من الغائط أحب أن يستنجي بالماء " ، وكان الواحد منهم يمسك الحجر ويمسح به محل قضاء الحاجة فيخفف من استخدام المياه لأن المياه كانت قليلة عندهم، ثم يستخدم الماء بعد الأحجار ليكمل ويتم نظافته، وأضافوا: " ولا نبيت على جنابة، ولا نُصرّ على ذنب، فإن غلبنا الذنب تعجّلنا التوبة ". { يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُطَّهِّرِينَ } والحب هنا متبادل، فلا شيء أقسى على النفس من أن يكون الحب من طرف واحد، وهذا هو الشقاء بعينه. والشاعر يقول:
أنتَ الحبِيبُ ولَكنِّي أعُوذُ بِكَ   مِنْ أنْ أكُونَ حَبِيباً غَيْرَ مَحْبُوبِ
وشقاء المحبين أن يكون الحب من جانب واحد، أما حين يكون الحب متبادلاً من الجانبين فهو قمة الإسعاد، وكذلك حين تكون العداوة من جانبين فهي تأخذ قمة الإيعاد والإبعاد، فحين تكون العداوة من جانب واحد، تنتهي بسرعة، لكن عندما تكون من الجانبين فإنها لا تنتهي بل تزداد اشتعالاً. إذن: فحين يكون الحب متبادلاً تجد المحب كلما رأى حبّاً من حبيبه رد عليه بحب، فينمو الحب ويزداد، ولا يكون الأمر كذلك إلا إذا كان حب القلوب فيما لا يتغير وهو " الحب في الله " ، فإذا رأيت حبّاً بين اثنين يتناقص بمرور الزمن فاعلم أنه حب لغير الله، وإن رأيت الحب ينمو كل يوم، فاعلم أنه حب في الله. والحق سبحانه يقول في قصة فرعون وموسى:

السابقالتالي
2 3