الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ مُنَٰفِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ }

أوضح سبحانه: وطِّنوا أنفسكم على أن من حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة منافقون، وهذا التوطين يعطي مناعة اليقظة حتى لا يندس واحد من المنافقين على أصحاب الغفلة الطيبين من المؤمنين، فينبههم الحق: انتبهوا فأنتم تعيشون في مجتمع محاط بالمنافقين. والتطعيم ضد الداءات التي تصيب الأمم وسيلة من وسائل محاربة العدو، ونحن نفعل ذلك ماديّاً حين نسمع عن قرب انتشار وباء فنأخذ المصل الواقي منه، رغم أنه داء إلا أنه يعطينا مناعة ضد المرض. وهكذا يربي الحق المناعة بحيث لا يمكن أن يُهاجَم المؤمنون عن غفلة، فيقول: { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ } و " مرد " يمرد أي: تدرب وتمرن، ويبقى الأمر عنده حرفة، وكأن الواحد منهم يجيد النفاق إجادة تامة. وكل ذلك ليوجد مناعة في الأمة الإسلامية حتى يكون المؤمن على بصيرة في مواجهة أي شيء، فإذا رأى أي سلوك فيه نفاق اكتشفه على الفور. واليقظة تدفع عنك الضر، ولا تمنع عنك الخير. وافرض أن واحداً قال لك: إن هذا الطريق مَخُوف لا تمشِ فيه وحدك بالليل. ثم جاء آخر وقال: إنه طريق آمن ومشينا فيه ولم يحدث شيء، فلو أنك احتطْتَ وأخذت معك سلاحاً أو رفيقاً فقد استعددت للشر لتتوقاه، فَهَبْ أنه لم يحدث شيء، فما الذي خسرته؟ إنك لن تخسر شيئاً. وهذه قضية منطقية فلسفية يُردّ بها على الذين يشككون في دين الله، مثل المنجِّمين، ومَن يدَّعون الفلسفة، ويزعمون أنه لا يوجد حساب ولا حشر ولا يوم آخر، فيقول الشاعر:
زَعَم المنجِّم والطَّيبُ كلاهما   لا تُحْشَرُ الأجسَاد قلْتُ إليكُمَا
إنْ صَحَّ قولكُمَا فَلسْتُ بخَاسرٍ   أوْ صَحَّ قَوْلِي فَالخسَار عليكُما
أي: إن كان كلامكم صحيحاً من أنه لا يوجد بعث - والعياذ بالله - فلن أخسر شيئاً لأني أعمل الأعمال الطيبة. وإن كان هناك بعث - وهو حق - فسوف ألقى الجزاء في الجنة وبذلك لم أخسر، بل كسبت. لكن افرضوا أنكم عملتم الشر كله وجاء البعث فأنتم الخاسرون. والقضية الفلسفية المنطقية هنا هي: إن لم أكسب فلن أخسر، وأنتم إن لم تخسروا فلن تكسبوا. والحق في هذه الآية يقول: { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ.. } وكلمة { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ } تفيد أنكم محاصرون، لا ممن حولكم فقط، بل أيضاً ببعض من الموجودين بينكم في المدينة، وهم من تدربوا على النفاق حتى صارت لهم ألفة به. وهذه الآيات - كما نعلم - قد نزلت تحكي حال المنافقين. والنفاق تتعارض فيه ملكات النفس الإنسانية بأن توجد ملكة كفر في القلب، بينما توجد ملكة إيمان في اللسان، فلا يتفق اللسان مع القلب، فالذين آمنوا يوافق ما ينطقون به ما في قلوبهم، والذين كفروا وافقت قلوبهم ألسنتهم.

السابقالتالي
2 3 4 5