الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ يِٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ }

ويستهل الحق تبارك وتعالى هذه الآية الكريمة بنداء الإيمان، ثم يضع شرطاً هو: { إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ } ، ويكون جواب الشرط أن يجعل لنا فرقاناً، ويكفر عنا السيئات، ويغفر لنا وسبحانه هو الكريم وصاحب الفضل العظيم. والمراد بالتقوى هنا أن تكون التزاماً بالأحكام وقمة الالتزام بالأحكام هي الإيمان بالله عز وجل، وإذا وجد الاثنان الإيمان بالله والالتزام بالأحكام، لا بد أن يتحقق وعد الله المتمثل في قوله تعالى: { يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } [الأنفال: 29]. والفرقان من مادة " فرق " " الفاء والراء والقاف " ، وتأتي دائماً للفصل بين شيئين، مثلما ضرب موسى البحر بعصاه فكان كل فِرْق كالطود العظيم. وسبحانه وتعالى يقول:وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ ٱلْبَحْرَ.. } [البقرة: 50]. أي نزع الله سبحانه الاتصال بين متصلين فصار بينهما فرق كبير. وافرض - على سبيل المثال - أنك أحضرت ثوباً من قماشٍ مُتَساوٍ في النسيج واللون، ثم شققت من الثوب جزءاً منه هنا لا يقال إنك فرقت بين القطعتين، بل فصلت بينهما، لكن لا يقال فِرْق إلا إذا كان الفصل يؤدي إلى فرقتين فِرقة هنا، وفِرقة هناك وهذه لها أشياء ومتعلقات، وتلك لها أشياء ومتعلقات. إذن فالفرق ليس هو الفصل بين متلاحمين فقط، بل هو فصل يؤدي إلى أن يكون لكل فرقة منهج، ومذهب، ورأي. و { يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً } أي يفصل بين شيئين لم يكن يوجد بينهما اتفاق لأنه لو كان بينهما اتفاق لصارا فرقة واحدة، لكن لأنهما مختلفان لذلك لا بد من وجود تناقض بينهما. وهنا يقول الحق تبارك وتعالى: إنه يجعل لكم فرقاناً، مثال ذلك، هناك من يهتدي، وهناك من يضل. وبطبيعة الحال يوجد فرق بين الهدى وبين الضلال. فالله شرح صدر المهتدي للإسلام، وجعل صدر الكافر ضيقاً حرجا فيه غل وحقد وحسد ومكر، وخديعة لذلك يفصل ربنا بين من بقلبه طمأنينة الإيمان وبين من يمتلىء صدره بالضغينة، فالمؤمن من فرقة تختلف عن فرقة أصحاب القلوب الحقودة. وحين يقول الحق سبحانه وتعالى: { يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً.. } [الأنفال: 29]. أي أنه سبحانه وتعالى يفصل بينكم أو يفصل بين عموم الحق وعموم الباطل لأنه يريد أن تكون حركة الحياة وحدة متكاملة منسجمة، لا يسودها هوى جماعة ضد جماعة لها هوى آخر لأنهم كلهم خلفاء لله في الأرض، وكلهم مخلوقون لله، وكلهم متمتعون بخيرات الله لذلك يجب أن تكون حركاتهم متساندة ومتناسقة غير متعاندة. والتفرق - كما نعلم - إنما ينشأ عن اشتباك بين فريقين اثنين، واحد منهما يمثل فريق الهدى، والثاني هو من حق عليه عذاب الله. { إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً.

السابقالتالي
2 3