الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوۤاْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

والخيانة مقابلها الأمانة، والأمانة هي الشيء يستودعه واحد عند آخر بدون وثيقة عليه، ولا شهود. بل الأمر متروك إلى من عنده الأمانة، إن شاء أَقَرَّ بها وإن شاء أنكرها لأن الأمانة ليس عليها صك ولا عليها شهود. ولا عليها " كمبيالة " ، وغير محكومة بأي شيء إلا بذمة من ائْتُمن، والحق سبحانه تعالى يقول:إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [الأحزاب: 72]. وكل الأجناس التي في الوجود ودون الإنسان من حيوان ونبات وجماد، كلها مُسخرة، ولا تملك الاختيار في أن تفعل أو لا تفعل. الشمس ليس لها اختيار في أن تقول: سأشرق اليوم على هؤلاء الناس، أو لن أشرق اليوم. والهواء لا يملك إرادة الاختيار، كل الكائنات التي أوجدها الله في هذا الوجود ما عدا الإنسان مسخرة للمؤمن وللكافر. ورفضت هذه الكائنات أن تحمل أمانة الاختيار، لكن الإنسان قال: أنا لي عقل يختار بين البديلات وأقبل تحمل الأمانة وسوف أؤدي كل مطلوبات الأمانة لأني أقدر على الاختيار. لكن الإنسان ادَّعى لنفسه القدرة على أداء الأمانة. وكأنه قد وثق من نفسه أنه سيؤديها، وهو لا يعلم بأي شيء حكم ذلك الحكم على أمر غيبي مستقبلي. صحيح أنه ساعة التحمل كان في نيته أن يؤدي الأمانة، لكن ماذا عن ساعة الأداء؟. وأنت لا تعرف ماذا تجيء به الأحداث والأغيار معك، فقد يأتي لك ظرف تضطر أن تبدد فيه الأمانة لذلك تجد العاقل هو من يقول: ابعد عني أمانة الاختيار، لأني لا أعلم ماذا ستفعل بي الأغيار لحظة الأداء. وكل ما دون الإنسان أعلن عدم تحمل الأمانة وقبل التسخير، أما الإنسان فأعلن قبول الأمانة وأنه سيؤديها. ووصفه القرآن الكريم بقوله:إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [الأحزاب: 72]. " ظلوماً " لنفسه لأنه حمَّل نفسه شيئاً ليس في يده. و " جهولاً " لأنه قاس وقت التحمل ولم يذكر وقت الأداء. فلم يضع في الاعتبار ما سوف تفعل به الأغيار. ويقول الحق عز وجل هنا: { لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوۤاْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }. وكثير من التصرفات السلوكية للإنسان تكون مستترة عن أعين الخلق لأن أعين الخلق حين ترى جريمة ما، فهي تستدعي رجال القانون ليأخذوا حق المجتمع من المجرم، لكن ماذا عن الجرائم المستترة؟. نحن نعلم أن كل جريمة تطفو وتظهر واضحة إنما توجد تحتها جرائم مختفية لأن الذي يقتل إنما يخفي جرائم أخرى مثل شرائه السلاح بدون ترخيص، وإن كان لا يملك نقوداً فقد يسرق ليشتري السلاح، ثم يقوم بتجنيد غيره لمساعدته في القتل، وكل ذلك جرائم مستترة، وبالتأكيد هناك سلوكيات باطنة يأتي بعدها السلوك المقلق للمجتمع وهو الجريمة الظاهرة، وقصارى قانون البشر أن يحرس المجتمع من الجرائم الظاهرة فقط، لكن عين القانون لا ترى الجرائم الباطنة والخفية، أما عين الدين فتختلف، إنها ترشد الأعماق إلى الصواب لأن الدين أمانة وضعها الحق - الذي خلق الخلق - في ضمير الإنسان.

السابقالتالي
2 3 4 5