الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ }

فهو سبحانه وتعالى قد علم أنه ليس فيهم خير، فلم يسمعهم سماع الاستجابة. والمولى سبحانه وتعالى منزه من أن يبتدئهم بعدم إسماعهم لأنهم لم يوجد فيهم خير، والخير هنا مقصود به الإيمان الأول بالرسول، وهم لم يؤمنوا. فلم يستمعوا لنداء الهداية منه صلى الله عليه وسلم كمبلغ عن الله تعالى. إذن فعدم وجود الخير بدأ من ناحيتهم، وسبحانه وتعالى القائل:وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } [البقرة: 264]. وهم - إذن - سبقوا بالكفر فلم يهدهم الله.وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } [البقرة: 258]. وهم سبقوا بالظلم فلم يهدهم الله. وسبحانه وتعالى القائل:وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ } [المائدة: 108]. وهم سبقوا بالفسق فلم يهدهم الله. والله منزه عن الافتئات على بعض عباده، فلم يسمعهم سماع الاستجابة لنداء رسول الله صلى الله عليه وسلم: { وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ }. وعلم الله تعالى أزلي، لكنه لا يحاكم عباده بما علم عنهم أزلاً. بل ينزل لهم حق الاختيار في التجربة الحياتية العملية. وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - تجد أباً يعاني من مأساة فشل ابنه في الدراسة أو في الاعتماد على نفسه في الحياة، ويحيا الولد لاهياً غير مقدر لتبعات الحياة، فيقول أصدقاء الوالد له: لماذا لا تقيم لابنك مشروعاً يشغله بدلاً من اللهو، فيرد الأب: إنني أعرف هذا الولد، سيأخذ المشروع ليبيعه ويصرف ثمنه على اللهو. والأب يقول ذلك بتجربته مع الابن. لكنْ ألا يُحتمل أن يكون هذا الابن قد ملَّ الانحراف واللهو وأراد أن يتوب، أو على الأقل ليثبت للناس أن رأى والده فيه غير صحيح؟ لذلك نجد الأب يفتح لابنه مشروعاً، لكن الولد يغلبه طبعه السيىء فيبيع المشروع ليصرف نقوده في الفساد. هل حدث ذلك من نقص في تجربة الوالد؟ لا، بل عرف الأب عدم الجد عن ابنه، وسهولة انقياده لهواه. فما بالنا بالحق الأعلى العليم أزلاً بكل ما خفي وما ظهر من عباده؟. ولكنّه سبحانه وتعالى شاء ألا يحاسب عباده بما علمه أزلاً، بل يحاسبهم سبحانه وتعالى بما يحدث منهم واقعاً، فهو القائل:وَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ } [العنكبوت: 11]. فسبحانه وتعالى العالم أزلاً، لكنه شاء أن يعلم أيضاً علم الإقرار من العبد نفسه لأن الله لو حكم على العباد بما علم أزلاً، لقال العبد: كنت سأفعل ما يطلبه المنهج يا رب. لذلك يترك الحق الاختيار للبشر ليعملوا على ضوء اختياراتهم ويكون العمل إقراراً بما حدث منهم. { وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } [الأنفال:23]. وحتى لو أسمعهم الله عز وجل لتولوا هم عن السماع وأعرضوا عنه لأنه سبحانه وتعالى يعلم أنهم اختاروا أن يكونوا شرّاً من الدواب عنده، وهم الصم الذين لا يسمعون دعوة هداية، وبُكْم لا ينطقون كلمة توحيد، ولا يعقلون فائدة المنهج الذي وضعه الله تعالى لصلاح دنياهم وأخراهم. ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ... }.