الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَهُوَ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّىٰ إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ ٱلْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ كَذٰلِكَ نُخْرِجُ ٱلْموْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }

وتصريف الرياح إهاجة للهواء في الكون، والإهاجة للهواء في الكون تأتي منها فوائد كثيرة للغاية، ونحن حين نجلس في مكان مكتظ وممتلئ بالأنفاس نقول لمن يجلس بجوار النافذة: " لنهوي الغرفة قليلاً ". وإن لم يكف هواء النافذة تأت بمروحة لتأخذ من طبقات الجو طبقة هواء جديدة فيها أوكسجين كثير. إذن فإرسال الرياح ضرورة حتى لا يظل الهواء راكداً. ويتلوث الجو بهذا الركود، ولو أن كل إنسان سيستقر في مكان مكتوم الهواء لامتلأ المكان بثاني أكسيد الكربون الخارج من تنفسه، ثم لا يلبث أن يختنق، ولذلك أراد الله حركة الرياح رحمة عامة مستمرة في كل شيء، وهي أيضاً رحمة تتعلق بالقوت كما تعلقت بمقومات الحياة من نفس وماء وطعام، وتصريف الرياح من أجل تجديد الهواء الذي نتنفسة، وكذلك تكوين الماء. لأنه سبحانه القائل عن الرياح: { حَتَّىٰ إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ.. } [الأعراف: 57]. والرياح هي التي تساعد في تكوين الأمطار التي تنزل على الأرض فتروي التربة التي نحرثها، وهكذا تكون الرياح بشرى في ثلاثة أشياء: الشيء الأول تحريك طبقات الهواء وإلا لفسد الجو في كل جماعة تستقر في مكان ولاستنشقوا الهواء الفاسد. والعنصر الثاني لمقومات الحياة هو الماء، لأن الرياح هي التي تحمل السحاب وتحركه وتنزل به مطراً على الأرض ونحرث نحن الأرض ونزرعها. وهو سبحانه قال: " بُشْراً " ، لأن هناك فرقاً بين بشرى، وبشراً فالبشرى مفرد، وقد وردت في قوله الحق:وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِٱلْبُـشْرَى.. } [هود: 69]. أي التبشير. لكن بشراً جمع بشير وهي كلمة مخففة، والأصل فيها بُشُر. والحق يقول: { فَلَمَّآ أَن جَآءَ ٱلْبَشِيرُ }. وجمع البشير " بُشُر " مثل: " نذير " و " نُذُر " بضم الشين فسكنت تخفيفاً، فتنطق بُشْراً وبُشُراً. { بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ }. هي بين يدي رحمته لأنها ستأتي لنا بالماء، وهو الرحمة في ذاته، وبواسطته يعطينا ري الأرض، ونحن نرتوي منه مباشرة أيضاً. ونلحظ كلمة الرياح إذا أطلقت بالجمع فهي تأتي للخير، أما حين يكون فيها شر فيأتي بكلمة " ريح " مفردة، مثل قوله:بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } [الحاقة: 6]. فإذن عندما نرى كلمة " رياح " فاعلم أنها خير، أما كلمة " ريح " فاعلم أنها شر لماذا؟ أنت إذا كنت قاعداً في حجرة فيها فتحة نافذة يأتي منها الهواء، ويتسلط التيار على إنسان، فالإِنسان يصاب بالتعب لأن الهواء يأتي من مكان واحد، لكن حين تجلس في الخلاء ويهب الهواء فأنت لا تتعبَ، لأن الرياح متعددة. ولكن الريح تأتي كالصاروخ. الرياح إذن يرسلها الحق بين يدي رحمته حتى إذا أقلت أي حملت يقال: " أقل فلان الحمل " أي رفعه من على الأرض وحمله لأنه أقل من طاقته، لأنه لو كان أكثر من طاقته لما استطاع أن يرفعه عن الأرض، وما دام قد أقله فالحمل أقل بالنسبة لطاقته وبالنسبة لجهده، أقلت أي حملت، وما دامت قد حملت فجهدها فوق ما حملته، وإذا كان الجهد أقل من الذي حملته لا بد أن ينزل إلى الأرض.

السابقالتالي
2