الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

وبهذا يخبرنا الحق أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم أصحاب الجنة وهم فيها خالدون، ويضع لنا الحق تنبيهاً بين مقدمة الآية وتذييلها { لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } لنفهم أن المسرفين على أنفسهم بالكفر وتكذيب الآيات لم يفهموا حقيقة الإِيمان، وأن حبس النفس عن كثير من شهواتها هو في مقدور النفس وليس فوق طاقتها لذلك أوضح لنا سبحانه أنه كلف بـ " افعل ولا تفعل " وذلك في حدود وسع المكلَّف. وحين نستعرض الصورة إِجمالاً للمقارنة والموازنة بين أهل النار وأهل الجنة نجد الحق قد قال في أهل النار:إِنَّ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَٱسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ ٱلسَّمَآءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ ٱلْجَمَلُ فِي سَمِّ ٱلْخِيَاطِ وَكَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلْمُجْرِمِينَ } [الأعراف: 40]. فهم لن يدخلوا الجنة، وعلى ذلك فقد سلب منهم نفعاً، ولا يتوقف الأمر على ذلك، ولكنهم يدخلون النار، إذن فهنا أمران: سلب النافع وهو دخولهم الجنة، إنه سبحانه حرمهم ومنعهم ذلك النعيم، وذلك جزاء إجرامهم. وبعد ذلك كان إدخالهم النار، وهذا جزاء آخر فقال الحق:لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلظَّالِمِينَ } [الأعراف: 41]. في الأولى قال: - سبحانه - { وَكَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلْمُجْرِمِينَ }. وفي الثانية قال: { وَكَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلظَّالِمِينَ }. فكأن الإجرام كان سبباً في ألاّ يدخلوا الجنة، والظلم كان سبباً في أن يكون من فوقهم غواش، ولهم من جهنم مهاد، وهم في النار يحيطهم سرداقها. ومن المناسب بعد ذلك الشحنة التي تُكرِّهنا في أصحاب النار وفي سوء تصرفهم فيما كلفوا به أولاً، وسبب بشاعة جزائهم ثانياً أن نتلهف على المقابل. فقال سبحانه: { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [الأعراف: 42]. وقول الحق سبحانه وتعالى: { لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } جاء بين المبتدأ والخبر، ككلام اعتراضي لأن الأسلوب يقتضي إبلاغنا أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم الخلود في الجنة، وجاءت { لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } بين العمدتين وهما المبتدأ والخبر لأننا حينما نسمع { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ } فهذا عمل قلبي، ونسمع بعده { وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } وهذا عمل الجوارح، وبذلك أي بعمل القلب مع عمل الجوارح يتحقق من السلوك ما يتفق مع العقيدة. والاعتقاد هو ما يسهل دائماً السلوك الإيماني ويجعل مشاق التكاليف في الأعمال الصالحة مقبولة وهينة، ولذلك أوضح سبحانه: إياكم أن تظنوا أني قد كلفتكم فوق طاقتكم، لا فأنا لا أكلف إلا ما في الوسع، وإياكم أن تفهموا قولي: { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } هو رغبة في إرهاق نفوسكم، ولكن ذلك في قدرتكم لأنني المشرع، والمشرع إنما يضع التكليف في وسع المكلَّف. ونحن في حياتنا العملية نصنع ذلك فنجد المهندس الذي يصمم آلة يخبرنا عن مدى قدراتها، فلا يحملها فوق طاقتها وإلا تفسد.

السابقالتالي
2 3