الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىۤ أَن يَكُونَ قَدِ ٱقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ }

وبذلك ينتقل الجدل من الرسول المباشر لهم الذي يأخذ بيدهم إلى الإيمان الأعلى، ينتقل الجدل إلى التفكير ومسئوليته: { أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [الأعراف: 185]. والتفكر هو إعمال العقل حتى لا يقولَنَّ أحد: إن رسول الله مجنون، لأن مجرد النظر في الكون يجعل الإنسان رائيا للسماء مرفوعة بلا عمد، والأرض مبسوطة والهواء يتحرك في انتظام دقيق. { أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [الأعراف: 185]. إذن فوقَنا سماء، وهناك ما فوق السماء، وتحتنا الأرض، وفيها ما تحت الأرض، وهناك بين السماوات والأرض. وما نراه في الظاهر هو ما يسمونه " مُلْك " أما الخفي عنك الذي لا تقدر أن تصل إليه بمعادلات تستخرج منها النتائج فاسمه " ملكوت ". ويقول سبحانه في سيدنا إبراهيم:وَكَذَلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [الأنعام: 75]. فكلمة " ملكوت " معناها مبالغة في الملك، مثل رهبوت أي الرهبة الشديدة، ورحموت أي الرحمة الشديدة، وكلها صيغة " فعلوت " وهي صيغة المبالغة. { أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ } [الأعراف: 185]. ونحن نرى السماء والأرض بوضوح، ولكن العظمة والسر ليسا في السماء والأرض فقط، بل هناك أشياء دقيقة جداً، بلغت من اللطف أنها لا تدرك بالنظر، ومع ذلك فإن فيها الحكمة العليا للخلق. وأنت قد ترى ساعة " بيج بن " الشهيرة في لندن وتكاد أن تكون أضخم ساعة في العالم، لكن الصانع المحترف من البشر صنع ساعة يد صغيرة في حجم الخاتم، وننبهر ونتعجب بدقة عمله وصنعته. فما بالنا بالخالق الأعظم الذي يعظم خلقه من السمٰوات والأرض لأنها فوق إدراكات البشر، وخلق أيضاً مخلوقات دقيقة لطيفة لا تستطيع أن تدركها أنت بمجرد النظر، كالميكروب، أو تدركها بصعوبة كالذبابة والبعوضة وبكل هذه الكائنات كل مقومات حياتها، حتى الكائن الذي لا معدة له يجهزه خالقه بقدرة على امتصاص الدماء مباشرة بعقله أو غريزته ويسعى ليأكل ويملأ معدته وله أجهزة تحول غذائه ليكون دماً. إذن فليست العظمة مقصورة على خلق السمٰوات والأرض فقط، لذلك يقول الحق: { وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىۤ أَن يَكُونَ قَدِ ٱقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } [الأعراف: 185]. أي من أول شيء يقال له شيء، صار محكوماً عليه وجودياً، بأنك إن نظرت إليه ستجد الأجهزة التي نعطي له الحياة، وتعينُه، حتى وإن كانت حواس استشعارية في ذات هذا الكائن، ولا يقوى عليها صاحب العقل. مثال ذلك: نجد أن ما يفر قبل حدوث الزلازل هو الحمير التي نتهمها بالغباء. وحين يتأمل العقل ما وصل إليه العلم في البحث في عالم الحيوان وعالم البحار، سنجد الإيمان بضرورة وجود خالق حكيم.

السابقالتالي
2 3